شهدت منطقتنا خلال العامين الماضيين خفض التصعيد وإعادة التموضع ونهاية الحرب الباردة بين القوى الإقليمية خلال العامين الماضيين، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وإنهاء سبعة أعوام من المواجهات، وتبعه تقارب خليجي ـ إيراني، وتهدئة بهدنة غير رسمية بين السعودية والحوثيين عقب إعادة العلاقات بين السعودية وإيران، وتأهيل وإعادة العلاقات مع نظام الأسد في سوريا، وفتح سفارات خليجية وعربية في دمشق وحضور الأسد قمتين عربيتين.
وشهدت المنطقة تقاربا ملفتا بين تركيا والسعودية والإمارات. ومنذ مطلع العام بين تركيا ومصر، بزيارات متبادلة بين قادة الدول الأربع لأنقرة والرياض وأبوظبي والقاهرة ـ وآخرها زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأنقرة الأسبوع الماضي ـ وتوقيع اتفاقيات تجارية واستثمار وعسكرية والتعهد برفع مستوى التبادل بين تركيا ومصر من 10 مليارات دولار إلى 15 مليار دولار.
حتى تكثف النقاش عن شروط سعودية مع إدارة بايدن لتوقيع اتفاقية أمنية دفاعية ملزمة لواشنطن ودعم برنامج نووي سلمي والتعهد بالعمل على قيام دولة فلسطينية مقابل التطبيع مع إسرائيل…حتى مستشار الأمن الوطني الأمريكي قال بأن منطقة الشرق الأوسط تشهد هدوءاً واستقراراً غير مسبوق منذ اعتداءات تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من عقدين، في ندوة قبل ثمانية أيام من تفجر المنطقة وشن إسرائيل حرب إبادتها الوحشية انتقاما من طوفان الأقصى التي نسفت ذلك الهدوء وخفض التصعيد السائد!
لم يكتف نتنياهو بالتصعيد لأحد عشر شهراً بحرب إبادة على غزة ـ بل شن حربا مدمرة على الضفة الغربية واجتاح ودمر البنى التحتية وقتل أكثر من ثلاثين شخصا في مخيمات مدن شمال الضفة الغربية وخاصة جنين ومخميها وطول كرم وطوباس ومخيم نور شمس. في استفزاز وتدمير ممنهج قد يدفع لتفجير انتفاضة ثالثة.
وقبلها وأثناء حروب الجبهات السبع كما يبالغ الاحتلال في الحرب المفتوحة على جنوب لبنان مع حزب الله. وبرغم رد حزب الله الباهت على اغتيال القيادي الكبير فؤاد شكر ـ إلا أن المناوشات مستمرة وتتصاعد وتتراجع ضمن قواعد الاشتباكات المنضبطة إلى حد كبير.
وبانتظار الرد الإيراني الذي تجاوز خمسة أسابيع على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قلب طهران، وبرغم تعهد ووعيد القيادات الإيرانية بالرد القاسي والمؤلم والمدروس ـ إلا أن رد إيران الانتقامي لا يزال تهديدا ووعيدا.
لم يكتف نتنياهو بالتصعيد لأحد عشر شهراً بحرب إبادة على غزة- بل شن حربا مدمرة على الضفة الغربية واجتاح ودمر البنى التحتية وقتل أكثر من ثلاثين شخصا في مخيمات مدن شمال الضفة الغربية
واستفزت إسرائيل الحليف الأوثق والأقوى والأكبر على أكثر من صعيد. برغم حشد الولايات المتحدة أرمادا بحرية بأعداد كبيرة في المتوسط والخليج بحاملتي طائرات والسفن المرافقة لها وآلاف المارينز والجنود الأمريكيين لردع إيران من الرد الانتقامي ضد إسرائيل ـ إلا أن نتنياهو يمضي باستفزاز وتحدي بايدن ـ والوسطاء برفضه قبول أي مقترح أمريكي ـ بهدف إطالة أمد وتوسيع رقعة الحرب لما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية.
وهناك انتظار رد الحوثيين الذين توعدوا بالرد انتقاما من إسرائيل التي قامت بقصف ميناء الحُديدة وتدمير منشآت ومحطات كهرباء في الميناء في 20 يوليو الماضي مفجرة جبهة جديدة ودافعة المنطقة إلى حافة الهاوية.
برغم إجراءات مصر التي أوقفت تهريب السلاح من سيناء إلى غزة ـ وأغلقت الحدود ـ وتتبادل المعلومات الأمنية مع إسرائيل وتقوم بدور الوسيط النشط مع قطر والولايات المتحدة ـ إلا أن نتنياهو ومستشاره شككا بدور مصر في وقف تدفق السلاح وذلك بعد إصرار نتنياهو البقاء في محور فيلادلفيا ما يخالف معاهدة كامب ديفيد عام 1979 ـ بمنع وجود قوات إسرائيلية ومصرية على الحدود.
وجاء رد مصر على لسان مسؤول رفيع غاضبا ومنتقداً: «تعنت نتنياهو سيظل عقبة أمام الهدنة والسلام. واستمرار الفشل العسكري والسياسي الإسرائيلي يدفع حكومة نتنياهو لإفشال جهود الوسطاء للتغطية على إخفاقها..». وخاصة بعد إصرار نتنياهو إبقاء قواته في محور فيلادلفيا، وتعمد إظهار خريطة يظهر فيها محور فيلادلفيا بدلا من كونه على الحدود المصرية ـ الفلسطينية، يظهر المحور منطقة عسكرية ما يخالف معاهدة كامب ديفيد للسلام، ما أدى لتوتر العلاقات مع مصر.
وصعد نتنياهو مهدداً العلاقات مع الأردن، برغم التطبيع ومساعدة الأردن بالتصدي وإسقاط صواريخ ومسيرات إيرانية هاجمت إسرائيل ليل 14 أبريل الماضي ـ برغم ذلك، تشهد العلاقة توتراً غير مسبوق. ومن يتابع تصريحات وتعبير الملك عبدالله الثاني عن رفض الأردن أي محاولات لتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، على أثر العملية العسكرية في الضفة الغربية. «محذراً من تداعيات الاستمرار بالهجمات والاعتداءات الإسرائيلية في الضفة الغربية على أمن المنطقة واستقراره».
وانتقد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي حرب إسرائيل على غزة وعدوانها على مدن ومخيمات الضفة الغربية وتهويد القدس المحتلة والاعتداءات على المسجد الأقصى ـ فيلاحظ تصاعد في وتيرة الانتقادات وصولا إلى أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية نحو بلاده، سينظر لها الأردن على أنها «إعلان حرب» وسيتعامل معها على هذا الأساس.
هذه المعطيات تثبت بوضوح مشروع وسلوك نتنياهو ووزرائه الصهاينة المتطرفين وعدوانهم على غزة والضفة والقدس والمسجد الأقصى ودعم الاستيطان والتهويد وإطلاق قطعان المستوطنين وإشعال نيران الحروب في عدة جبهات، وعرض خرائط مستفزة عن إسرائيل الكبرى ومحور فيلادلفيا ـ يجعل إسرائيل تحت حكومة أقصى اليمين كيانا مارقا والمهدد الأول للأمن والسلم والاستقرار الإقليمي والدولي معاً!
ويبقى السؤال من يفرض توازن الردع ؟ ومتى ينتهي إفلات إسرائيل من العقاب؟!
أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت