ما يتكشف يوميا في حرب إسرائيل على الفلسطينيين، هو خروج الأنظمة العربية من دائرة الصراع وعدم انخراطها في مواجهة إسرائيل، بعد ما تبين لها أنها أفضل من تغطي على عجزها وخيبتها وعنجهيتها في إدارة وتسيير شؤون الدولة والمجتمع، على ما فعلت الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام، وليس أمنا مع إسرائيل. ثم إن الدول التي سعت إلى التطبيع معها في المدة الأخيرة، كان طوفان الأقصى الفعل المعطل لمسعاها غير الوطني وغير النبيل للعرب وتاريخهم، وحلّ محله الدور الإيراني، بما يحمل من زخم فارسي، والدور التركي وما يحمل من عمق عثماني.. ومقابل ذلك، أو بالأحرى في موازاة ذلك، يتكشف يوميا أيضا أن إسرائيل كيان أمريكي لا يملك إمكانية التنَفُّس إلا بالأوكسجين والإكسير الأمريكي، وقدرة الاحتلال الإسرائيلي في قدرته على احتمال نتائج ومضاعفات الحرب وامتداداتها الأخيرة.
وعليه، فمن جملة ما تكشفه اللحظة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط كلها بعد المواجهة المباشرة بين إيران ودولة إسرائيل الأمريكية، هو الضعف الرهيب للكيان اليهودي الصهيوني، الذي نفد رصيده من العزاء والحداد والتعاطف الغربي له، منذ أن احتل أرض فلسطين عام 1948. فقد كان اعتراض أمريكا وفرنسا وبريطانيا مع مساعدة دول عربية لكل الصواريخ والطائرات المسيرة التي أرسلت من إيران الدور الحاسم في تلافي خسائر كارثية على الأراضي التي تحتلها إسرائيل بالوكالة عن الغرب. هذه الحالة بالذات هي التي يكشفها التطور النوعي الأخير في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وليس المنطقة العربية فقط. لا توجد إسرائيل بقدر ما أنها العنوان الكبير في الإعلام الغربي، بينما على أرض الواقع، ما هي إلا محمية غربية كشف عنها «طوفان الأقصى» في كل مضاعفاته وتداعياته.
من جملة ما تكشفه اللحظة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط كلها بعد المواجهة المباشرة بين إيران ودولة إسرائيل الأمريكية، هو الضعف الرهيب للكيان الصهيوني
في التقييم الأخير الذي لا يحفل كثيرا بالحسابات العربية، ونقصد به الأنظمة العربية هو، أن طوفان الأقصى الذي أربك الكيان الإسرائيلي وجعله يرتبك في لمّ أوصاله وجمع شتاته، ومحاولة استعادة أمنه وسلامته، كل ذلك تحصيل حاصل من سياسة إيرانية في المنطقة العربية، عندما نعني أحزابا وحركات عربية عناوينها المهمة حزب الله، وحماس والحوثيون، وكلها أثبت جدارتها في التصدي للكيان العِبْري وإلحاق الضرر الكبير به، خاصة لحظة ما بعد اليوم الذي تلا الحرب مباشرة، حيث وقف الجميع على نوعية النظام الصهيوني وهشاشة أوصاله ودواليبه، ليس بالتقييم الفوري، بل بالتحليل العميق والاستراتيجي والنفس الطويل والأمد البعيد، كما تفكر إيران التي سبق لها أن عانت من دمار مدْلهم مع أنظمة عربية في ما عرف بحرب الخليج الأولى، يظهر التصعيد الأخير بينها وبين إسرائيل مجرد فتات سقط من مائدة الطعام. التصعيد الأخير بين إسرائيل/ أمريكا وإيران وفَّر فرصة لإعادة تقييم وتحليل المسألة الفلسطينية برمتها، بحيث يظهر الاعتبار الإيراني أقوى وضوحا، وليس كما هو مستقر في وجدان العرب، فمنذ أكثر من ثلاثين سنة، خاصة بعد نجاح حزب الله في إخراج إسرائيل من جنوب لبنان، عبر اتفاقية، والسياسة الإيرانية لا تحفل كثيرا بالحقيقة العربية الغائبة في مشكلة الشرق الأوسط. إيران وحدها في المنطقة التي لا تجابه إسرائيل فحسب، بل الغرب بكامله، في صراع مرير لا تقوى عليه إلا الأمم الكبرى والحضارات العظيمة، وما يعرف عنها أنها مبدعة ومحترفة صناعة النسيج بصبر وأناة، يندرج في المدى الطويل الذي يصنع التاريخ ذاته، على ما كان يرى المؤرخ الفرنسي فارنان بروديل.. وتلك هي النفسية والعقلية والثقافة التي تبنتها إيران في الأزمنة المعاصرة لمواجه الغرب، الذي يفرض عليها حصارا ظالما من كل الجهات. وهي الحقيقة التي يجب أن تدرج في الاعتبار عندما نحلل ونقيم المواجهة الأخيرة بينها وبين إسرائيل الأمريكية. إيران في مواجهة مفتوحة مع الغرب وإسرائيل، وقدرتها تتمثل في خوض غمار المعارك والحروب وفق ما انتهى إليه طراز الحرب، التي لا تتوكأ فقط على الأسلحة، وإنما تمازج بين كل الإمكانات المعنوية والسياسية والعسكرية، خاصة الاستراتيجية، وقد أبدت قدرة فائقة جدّا من عدم الانجرار في حرب مدمرة ناجمة عن غطرسة ومكابرة أنظمة بعيدة عن شعوبها، وحساسيات المنطقة ومستقبل الشعوب، على ما تورطت فيه أنظمة عربية مثل، سوريا والعراق وليبيا التي انهارت بسبب ضربات الغرب، ومع ذلك أخذت إيران نصيبها من الحضور الاستراتيجي، الذي يؤكد وجودها كقوة سياسية عنيدة في الشرق الأوسط والعالم الجديد، الذي يتشكل على حساب الغرب نفسه، على ما يخبرنا به الباحث والمفكر الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الأخير «هزيمة الغرب». الرد الذي شنته القوات الإيرانية ليلة الثالث عشر إلى الرابع عشر من الشهر الجاري، يأخذ بالخطوط والبيانات والترتيبات التي تفصح عن الحرب، ولكن لا تخوضها بالكامل، لأن الهزيمة لا تظهر جلية للطرفين معا، لكنها تؤكد الخصمين معا، أي الطرف الإيراني والإسرائيلي الأمريكي، وهذه بدورها إحدى النقاط التي تحسب لصالح إيران التي تصر على برنامجها النووي وحضورها الاستراتيجي في المنطقة، وأنها هي الخطر الحقيقي على إسرائيل الأمريكية في المنطقة، بعد انحسار وتواري دور العرب في المواجهة وتبنيهم سياسة التطبيع بلا وجه شرعي.. وتركهم الشعب الفلسطيني الذي يقف صامدا وحيدا أمام همجية الغرب ونفاقه المقيت.
كما أن الرد على الرد يوم الخميس 18 أبريل الجاري الذي شنته القوات الإسرائيلية تحت قيادة أركان أمريكية كان في حدود السياسة الجديدة في إدارة الحروب في العصر النووي الذي يجب أن لا يدفع الى الهلاك الطائش الذي تنهار معه الدول والأمم والشعوب. فمجرد حفظ هذه التوازنات واللعب دون الإخلال بها يؤمن القوة الحقيقية ويصونها لجولات أخرى، على ما نبهنا إليه سجل تاريخ إيران في المنطقة، لعلّ الإنجاز العظيم الذي تكفلته، أنها تساهم في تحديد ملامح جغرافية سياسية جديدة للعالم عنوانها الكبير في الوقت الراهن هو الجنوب الشامل. ما يصلح اليوم في تحليل السياسة الإيرانية ليس في مواجهتها مع الغرب، بل في قدرتها على التواصل الفاعل مع الجهة الأخرى من العالم، الذي يصنع ضد الغرب نفسه الذي آل إلى وضع نتيجته القاسية ما يجري في إسرائيل بالذات. فعندما ضربت إسرائيل الأمريكية قنصلية إيران في دمشق، يوم الفاتح من أبريل، فهي تؤكد أنَّ السند الحقيقي لطوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023 هو إيران بالذات عندما تأخذ بالتحليل الجهة الأخرى من السياسة الدولية التي تسعى إلى هزيمة الغرب، بما في ذلك وكيله في المنطقة العربية: إسرائيل.
كاتب جزائري