ما يجري اليوم في غزة يكثف كل مشاهد تاريخ اليهود في عصرهم الصهيوني. فقد كانت البداية مع ارتكاب الاستعمار البريطاني لظلم تاريخي فادح وفاضح عندما أقدمت على منح أرض في فلسطين ليهود لكتل بشرية من أشتات يهود أوروبا وهي حالة شاذة ارتقت إلى الخطيئة الأصلية لدولة عبرية سوف تقوم في عصرها الصهيوني المناهض للتاريخ المعاصر لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فقد كانت هذه الأخيرة حركة عالمية وإنسانية لكل شعوب العالم في أن تستعيد حياتها مع أراضيها الأصلية وتراثها المحلي في وضع من السيادة والاستقلال وبناء الوحدات القومية التي تبحث دائما التواصل مع الآخرين كمآل حتمي وضروري لتشكل وترتيب منظومة العالم الجديد.
هذا وجه من وجوه الخطيئة الأصلية في تكوين دولة اليهود المعاصرة، فلم تكن أرضهم بل جاءوا إليها تحت إشراف ومراقبة القوى الاستعمارية واحتلوها كمشروع استعماري لاحق لا يكف عن التوسع والاستيطان. وكان الوجه الثاني للخطيئة الأصلية أن عمد الآباء المؤسسون للدولة اليهودية في فلسطين أن أعلنوا على لسان بن غوريون الاستقلال عن الدولة التي وفرت لهم أرض لا تملكها أصلا. فلم يكن للخطيئة الأصلية إلا أن تستدعي الظلم والحيف والعنف على اعتبار أن الاستقلال الذي تحقق لإسرائيل لم يكن ناجما عن حركة مقاومة وطنية على غرار سائر بلدان و شعوب العالم، فقد كان مآلها أن تحارب أهل الأرض وتقاومهم كنوع من استخلاص شرعية السيادة والاستقلال الشرعي. وجه المفارقة في هذا المشروع الاستعماري أنه أراد أن يتدثر الشرعية بما يخالفها: تحقيق الاستقلال ثم بعد ذلك الكفاح والنضال واستخلاص الشرعية الدولية.
كل العنف والدمار والخراب المدلهم الذي يحدثه الصهاينة في غزة اليوم هو مشاهد مكثفة لتاريخ الدولة العبرية اللاحق عن استقلال غير شرعي مناهض للتاريخ المعاصر الذي يعني من جملة ما يعنى أن الأحداث والوقائع فيه لا تمضي ولا تنسى. و شريط مجازر غزة الشهيدة هي مشاهد تستحث الذاكرة على قراءة صور نظام استيطاني صهيوني أفضت به الخطيئة الأصلية إلى مآلات ظالمة يشاهدها العالم كله عبر كل وسائط الإعلام التي تقرب الحقيقة ولا تحتاج إلى تغطية أو دعاية، فقد ودّع العالم مقولة ونستون تشرشل أحد أساطين العرب العالمية الثانية : «الحقيقة هي أول ضحايا الحرب».
الانتصار للظلم على هذا النحو هو حالة من الاستفهام لم يكن بوسع كل شعوب العالم أن تقبله أو تستسيغه لأنه خارج العقل والتاريخ
لا، الحرب في غزة اليوم هي المشهد المكثف لكل تاريخ اليهود في عصرهم الصهيوني لأن مشاهد يوم القيامة ليست للنسيان بل لمعرفة مزيد من الحق و القانون والعدالة التي هضمها أحد الأطراف ويتحين لأخذها وحيازتها طرف آخر. يوم القيامة على ما تشهده غزة الشهيدة هو للعبرة للجميع ما دام شارك فيه الجميع على خلفية تنكر القوى الكبرى لهذا الظلم التاريخي العابر للقارات والعاصف لكل شيء، ويتطلب لغة عالمية ومن منبر عالمي ليتواصل معه الجميع على ما فعل السيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، و يصرح لأول مرة في حوليات الهيئة الأممية : «أن حركة حماس لم تأت من فراغ» بل لها سياقها وتاريخها واعتبارات ألحت عليها لكي ينفض عنها غبار العنف والإرهاب الذي حاول الغرب أن يحشرها في خانة المنظمات الإرهابية التي يجب القضاء عليها.
فعبارة الأمين الأممي هي التي تميط لنا اللثام عن التاريخ الصهيوني في المنطقة العربية على أنه مسار معاد للعقل الإنساني في آخر تطوراته، لأنه سرق من التاريخ المعاصر شروط التكوين السليم للدولة القومية المعاصرة التي تستحق الوجود الشرعي في المنطقة وفي العالم. فواحدة من مسارات الدولة العبرية أنها آلت على نفسها محاربة التنظيمات الدينية أو تلك التي تفترضهم كذلك، لأنها قامت هي بالذات ككيان يهودي. فلم تعد تقوى على مواجهة الدول، وركنت في المدة الأخيرة على محاربة الأحزاب دينية كأفضل طريق إلى إضرام الحرب الأهلية في البلد الذي يوجد به الحزب الديني، على ما فعلت في لبنان.
إسرائيل كدولة واجهة أمامية للغرب في منطقة الشرق الأوسط، مشهد واضح في حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة. فالصورة التي قدمتها هذه الحرب هي حالة انفصام الشخصية الغربية حيث الشعوب تتساءل بكثير من الحيرة من أين للغرب كل هذا العداء للحق والانتصار الأعمى للظلم و الحيف!..؟ و الواقع أنهم فقط نسوا بأن الغرب كان يوما ما كيانات استعمارية تفعل ما تفعله إسرائيل في زمن لم يكن يقدم الصورة كاملة و في لحظة فورية، غير أن هذا الغرب بالذات هو الذي يتفاعل و يتواصل في لحظة محايثة لواقعة الحرب على غزة تماما كما يفعل اليهود في المنطقة كموكَّلين عن الغرب. فالانتصار للظلم على هذا النحو هو حالة من الاستفهام لم يكن بوسع كل شعوب العالم أن تقبله أو تستسيغه لأنه خارج العقل والتاريخ والأمر العادي.
خطاب الأمين العام للأمم المتحدة ليس اكتشافا، بل هو كشف لما يتكَتَّم عليه كل رجال السياسة في العالم. الأمر معروف جدّا، فقط آن الأوان بأن يُصَرِّح به في أعلى منبر في العالم من أجل أن يأخذ معناه، والانتقال من ما نعرفه في صمت إلى البوح به على الملأ، لأن مضاعفات الحرب على غزة وتداعياتها خطيرة جدّا. فقد تضافرت الخطيئة الأصلية لدولة إسرائيل مع مآلاتها الخاطئة بقوة وأشرت على إمكانية الحديث عن بداية نهاية إسرائيل. فعندما تلتئم الخطيئة الأصلية مع مآلاتها ويُجْمع الجميع على أن التاريخ المعاصر لم يعد بوسعه أن يتسع للظلم أكثر مما هو قابل للإصلاح والتعديل والتصحيح، وأن اليمين المتطرف وصل إلى أقصاه وسقط أمام الحائط، عندها يجب التدخل لإسعاف الوضع بما ينهي الفعل السرطاني الصهيوني كأفضل درب إلى إنقاذ العالم و شعوبه. الفراغ الذي تحدث عنه الأمين العام للأمم المتحدة هو الذي يضع الدولة اليهودية في مواجهة المقاومة الإسلامية حماس، أرادته هذه الأخيرة مكرهة وتسعى إلى تجاوزه وقد ابتليت به البلاء الحسن، لكن أرادته الدولة العِبرية مشروعا وخطة وسياسة استعمارية، دون أن تتوقع مآلاته الكارثية عليها وعلى الغرب كليهما. فالتمادي في تفعيل دائم للخطيئة الأصلية، هو الذي سوف يفضي لا محالة إلى تبرئة الملايين من الألمان الذين ذهبوا ضحية النازية لجرائم لم يقترفوها في حق اليهود، ولعلّ النازيين الجدد وتيارات اليمين المتطرف هو العنوان ومقدمات ومتون تاريخ اليهود الذي ينتظر في العصر الفائق النهاية الشاملة.
كاتب جزائري