بدت تصريحات الرئيس الأوكراني فلولوديمير زيلينسكي، عن المستقبل الذي يتوقعه لبلاده بعد الغزو الروسي، محيّرة وغير مفهومة لكثير من المتابعين.
فالقائد الذي من المفترض أنه يواجه التسلطية الروسية، ويناضل لأجل تقريب بلاده من المعسكر الغربي الديمقراطي، أعلن أن «أوكرانيا لن تكون ليبرالية أو أوروبية تماماً كما تمنينا». ماذا ستكون إذن؟ «أشبه بإسرائيل كبيرة. لن نتفاجأ إذا رأينا ممثلين عن القوات المسلحة أو الحرس الوطني في دور السينما والمتاجر»، يقول زيلينسكي.
يمكن قراءة تصريح الرئيس الأوكراني بأكثر من طريقة، أكثرها سهولة وابتذالاً اعتباره دليلاً على «صهيونية» النظام الحاكم في كييف، أو محاولة لجلب دعم اللوبيات الصهيونية واليهودية حول العالم. في التصريح نقطتان أكثر إثارة للانتباه. أولاهما أن إسرائيل، التي كثيراً ما قدمت نفسها واحةً للديمقراطية وسط صحراء التسلطية العربية، باتت تعتبر نموذجاً مختلفاً، وربما متعارضاً، مع النماذج الليبرالية الغربية: أن تكون إسرائيلياً يعني بالضرورة أنه لن يمكنك أن تكون أوروبياً تماماً؛ والثانية أن الليبرالية لم تعد مثالاً مناسباً لشعب اعتُبر، منذ انتفاضته عام 2014 على الأقل، من الشعوب الساعية لتمديد القيم الليبرالية عالمياً.
إسرائيل لم تعد بالفعل موضوعاً مفضّلاً لتضامن الليبراليين التقدميين واليساريين في الدول الغربية، بل صارت تُشبّه غالباً بالأنظمة «الشرقية» شبه الاستبدادية، مثل تركيا والمجر، وأحياناً روسيا نفسها. فيما تشتكي الأوساط الصهيونية مما تعتبره «تخلي الغرب» عن اليهود، ولا مبالاته بالمخاطر التي يتعرّضون لها في الشرق الأوسط. وتتحدث بعض الحركات اليمينية واليسارية، التي ما زالت تتمسك بالدعم غير المشروط لإسرائيل، عن ظهور نوع من «معاداة السامية الجديدة» في التيار الثقافي والأيديولوجي الغربي الرئيسي. وبالتالي فإن التصوّر العربي السائد عن إسرائيل بوصفها «طفل الغرب المدلل» لم يعد مطابقاً تماماً للوقائع، فعلى الرغم من الدعم المادي، وحرص دول غربية كثيرة على أمن إسرائيل، لم تعد الدولة العبرية مُحرجة من التصرف بوصفها دولة مارقة عن المعسكر الغربي.
قد تكون الأهمية التاريخية لتصريح زيلينسكي أنها جعلت هذا الافتراق بين إسرائيل والليبرالية الغربية بيّناً: لن نكون ليبراليين، بل إسرائيليين!
ولكن ماذا يعني أن يكون نظام سياسي ما إسرائيلياً؟ ولماذا لم تعد الليبرالية مناسبة في مواجهة تحديات كبرى كالتي تواجهها أوكرانيا؟ وهل فشل الليبرالية هذا مقتصر على بلدان مستجدة في ديمقراطيتها مثل بلدان أوروبا الشرقية؟ أم له أبعاد أوسع؟ لم يحاول زيلينسكي التعمّق في الإجابة على كل هذه الأسئلة التي أثارها تصريحه.. وربما يكفيه أنه قدم إشكالية، ذات أبعاد تاريخية وسياسية وأيديولوجية، تستحق التفكير.
سرائيل لم تعد بالفعل موضوعاً مفضّلاً لتضامن الليبراليين التقدميين واليساريين في الدول الغربية، بل صارت تُشبّه غالباً بالأنظمة «الشرقية» شبه الاستبدادية، مثل تركيا والمجر، وأحياناً روسيا نفسها.
أن تكون إسرائيلياً
يمكن اعتبار إسرائيل مثالاً نموذجياً، أو بالأصح متطرفاً، للدولة الحديثة نفسها، من منظور نقّاد هذه الدولة. نتحدث هنا عن حركات قومية مسلّحة، أنشأت «شعبها» الخاص، من خلال علمنة أساطير دينية مؤسِّسة، لم يؤمن بها زعماء تلك الحركات بالضرورة، ولكنهم اعتبروها أساساً أيديولوجياً لتمييز الذات الجمعية عن الآخر. نشأت دولة إسرائيل نتيجة عمليات تطهير وتهجير ومجازر جماعية، مكّنت هويتها القومية من السيادة والاستقرار. كما عملت على صياغة عبرية حديثة لتمتلك لغتها «الوطنية» الرسمية، ورغم ادعاءات التعددية الثقافية تسعى إسرائيل لانتزاع الاعتراف بها بوصفها دولة يهودية، وهو ما لا يتعارض بالمناسبة مع نموذجها في العلمنة، فـ»اليهودية» هنا تعني كياناً لجماعة سياسية يهودية مفترضة، وليس سلطة روحية مستمدة من الكتاب المقدس.
هذا النموذج المتطرف للدولة القومية له نظائر في المنطقة والعالم، إذ يمكن، لدى التنقيب تحت الرواية الرسمية لكثير من الدول، إيجاد آثار المجازر والإبادات الجماعية، والإقصاء العرقي والثقافي واللغوي والديني، الذي قامت عليه. كما يمكن تتبع خطوات إنشاء اللغات الرسمية، و»الثقافة الوطنية» وكذلك «الشعبية»، السائدة بسلطة الدولة. إلا أن ما يميّز إسرائيل عن بقية «الكيانات المصطنعة» للدول القومية هو انفتاح أسطورتها المؤسسة: لا يمكن للدولة العبرية أن تكتمل بحدودها وسكانها الحاليين، فهي كيان أُنشئ أصلاً لحماية الشعب اليهودي، الذي عانى طويلاً، في شتاته العالمي، من كل أشكال الإبادة والاضطهاد، ولذلك فهي على استعداد دائما لخوض معركة الدفاع عن اليهود في العالم بأسره. كل الإسرائيليين مجندون في معركة طويلة لا تنتهي، فالهوية اليهودية تعيّنت وسط الحصار والاضطهاد، والاختلاف عن أغيار يحملون موقفاً عدائياً. وبالتالي فحتى لو توصّلت إسرائيل للسلام مع جيرانها، ستبقى متحفزة للدفاع عن الشعب اليهودي ضد عودة معاداة السامية، المتأصلة لدى الآخرين، والقابلة دائماً للإطلال برأسها مجدداً.
من الواضح أن نموذج التجنيد الدائم والقدرة على التعبئة الشاملة، في مواجهة خطر وجودي لا ينتهي، هو ما جذب زيلينسكي. كثير من القوميين الأوكرانيين يقولون إنه لا يوجد جيل أوكراني لم يعان من روسيا، إلا أن في تصريح زيلينسكي جانباً آخر، وهو أن اتباع بلاده نموذجاً إسرائيلياً لن يعني أنها ستصبح بلداً تسلطياً مثل روسيا، وهذا يفصح عن فهم كبير للأيديولوجيا الإسرائيلية الحالية. فإسرائيل، رغم كل تعبئتها العامة، تقدّم نفسها بوصفها بلداً ديمقرطياً متعدداً، يحوي متدينين وعلمانيين، يهوداً وعرباً، يميناً ويساراً. وتدّعي إفراد مساحات واسعة لتقرير المصير الفردي: مسيرات فخر للمثليين جنسياً؛ قدرة «الجميع» على إبراز هويتهم الدينية والثقافية، بل إن حياتها الأكاديمية مزدهرة بالأساتذة الذين ينتقدون الكولونيالية والرجل الأبيض والعنصرية، والدولة القومية الحديثة نفسها، من قلب إسرائيل، الدولة القومية، الكولونيالية، العنصرية، والبيضاء رغم «شرقيتها».
يبدو العالم اليوم متجهاً إلى نمط من الاستقطاب الشامل ضمن معسكرات متناحرة، ما يجعل الحديث عن الانفتاح والتسامح، الذي طبع فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أشبه بموضة عتيقة.
بماذا تختلف إسرائيل إذن عن الدول الليبرالية الغربية؟ قد تكون الإجابة هي تطبيعها الدائم مع حالة الاستثناء، إذ لا وجود لهذه الدولة إلا في وضع طوارئ لا ينتهي، فلا تكون المراسيم الطارئة فيها مجرد «إمكانية» يفترضها القانون، معطياً المجال للإجراءات السيادية للدولة، بل يصبح القانون نفسه مدونة طوارئ. ربما يكون هذا وضعاً مثالياً لمن يفهمون «السياسي» بوصفه تعبيراً عن السيادة، في مواجهة مفتوحة بين «نحن» و»الآخرين»، لا بد من تمييز العدو من الصديق فيها.
المآل الإسرائيلي لليبرالية
ما يريده زيلينسكي إذن هو كثير من الحريات غير المتوفرة في روسيا، في إطار قدرة بلاده على شن حرب مستمرة ضد جارتها الشرقية في الوقت نفسه. تُعرّف الهوية الأوكرانية بهذا المعنى بوصفها استثناءً دائماً تجاه الروس، فهي قادرة دائماً على التعبئة العامة ضدهم من جهة؛ ومتفوقة على جمودهم واستبدادهم الشرقي من جهة أخرى. إلا أن التعبئة العامة الدائمة ليست مجرد طموح لرئيس نظام، يتهمه كثيرون بمحاباة النازية الجديدة، بل يبدو أنها صارت من أساسيات تفكير من يوصفون بـ»الليبراليين» في عصرنا. فلدى مناقشة أي قضية، سواء كانت مواجهة العنصرية واليمين الشعبوي؛ الإجراءات الصحية والاجتماعية اللازمة للتعامل مع وباء كورونا؛ أو حتى التصدي للتغيير المناخي، يصير التجنّد لمواجهة عدو وجودي ما، ضمن حالة استثناء، من بديهيات الأيديولوجيا «التقدمية». هنالك دائماً ضرورة يهون لأجلها انتهاك بعض التفاصيل، التي كانت تعتبر من صلب الليبرالية.
بهذا المعنى فليس زيلينسكي وحده من يبدي طموحاً نحو «الإسرائيلية»، متجاوزاً الليبرالية الكلاسيكية. سبق لمفكر ليبرالي لامع مثل فرانسيس فوكوياما الحديث عن ضرورة تجاوز التصنيفات التقليدية بين دول ديمقراطية وأتوقراطية، في مواجهة حالة طوارئ مثل وباء كورونا. فالمقياس، بحسبه، هو قدرة السلطة التنفيذية، بأجهزتها التكنوقراطية والبيروقراطية والعنفية، على اتخاذ إجراءات فعّالة لمواجهة التحديات العاجلة. لم يتخل زيلينسكي عن الليبرالية على ما يبدو نتيجة ميول صهيونية لديه، بل ربما كان ليبرالياً طليعياً أكثر من اللازم، فهم بوضوح الاتجاه التي تمضى إليه الليبرالية المعاصرة.
«إسرائيل» الكبيرة جداً
يبدو العالم اليوم متجهاً إلى نمط من الاستقطاب الشامل ضمن معسكرات متناحرة، ما يجعل الحديث عن الانفتاح والتسامح، الذي طبع فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أشبه بموضة عتيقة.
كثير من البشر، الذين تم تبشيرهم بفضائل «المرونة» ضمن عالم مفتوح، لم ينالوا إلا الإفقار والتشتت الاجتماعي والخضوع لسلطات أوليغارشية، أو في أفضل الأحوال الذوبان ضمن حشد سلبي، لا خيار له إلا تنفيذ ما تقرره نخبة البيروقراطيين والتكنوقراطيين، من المديرين التنفيذيين لـ»الليبرالية» المعاصرة.
بهذا المعنى فقد يكون النموذج الإسرائيلي أكثر حيوية لأمم ما زالت تحلم بـ»رياح التغيير»، التي وُعدت بها منذ نهاية الثمانينيات، دون أن تشهد سوى الانتقال من الفساد والانحدار الاجتماعي إلى التدمير الشامل، في معارك قومية وهوياتية لا تنتهي. إلا أن التحوّل إلى «إسرائيل كبيرة» قد يكون مخيّباً جداً لآمال أجيال حلمت بالتغيير، ولذلك فربما يكون انتقاد «طليعية» زيلينسكي أحد أكثر المهام النظرية والسياسية إلحاحاً، لكل من يريدون شرطاً أكثر تحرراً لدولهم ومجتمعاتهم.
كاتب سوري
ان تكون إسرائيليا يعني ان تكون عنصريا ويعني ان تكون يهوديا مكروها في كل مكان وهذا ما أغضب جماعة الكنيست من خطاب زيلينسكي الفج
رائع .. كالعادة . رغم أن هذا ليس موضوع المقال ، هناك سبب آخر في الواقع لاعجاب كثيرين من مختلف الشعوب بالنموذج الإسرائيلي، التيارات المتزايدة من اليمين المحافظ معجبة بنموذج الدولة العرقية اذا جاز التعبير ، اي دولة عرق معين وليس دولة المواطنين ، قد يكون من بينهم من يكن مشاعر الكره والضغينة تجاه اليهود لكن مع ذلك معجب بالدولة التي اسسوها . عموما السؤال الذي يهمنا هو ؛ في ضوء هذه التحولات ما هي المبادرة التي ينبغي على الفلسطينيين الاقدام عليها ؟ هذا هو التحدي الاهم . يبدو لي ان اسلوب النضال المسلح وبخاصة ضد المدنيين فعلًا مضى عليه الزمن وانتهي مفعوله ، وامسى يرتد عكسيا علينا .
شكرا على هذا العمق
شر البلية ما يضحك حقا وصدقا متى كانت دويلة الاحتلال الصهيوني الاسرائيلي العنصري البغيض كبيرة حد علمي أنها كيان مشوه على أرض فلسطين؟؟؟؟؟
اللهم انصر اخواننا في فلسطين واكسر اللهم شوكة المحتل اللعين إسرائيل كسرا لا جبر بعده أبدا أبدا آمين آمين آمين يارب العالمين
بيت العنكبوت تلك اسرائيل