رام الله- «القدس العربي»: تتلاعب سياسات الاحتلال الإسرائيلي بالضفة الغربية بالمواطن الفلسطيني بطريقة بشعة، أكثر الأمثلة دلالة على ذلك هو استخدام الاحتلال للبوابات الحديدية والحواجز الاحتلالية التي زادت عن 700 حاجز وبوابة في عموم الضفة الغربية، حيث قامت بدور كبير في إدخال المواطن الفلسطيني البسيط في تجربة تعذيب وتكيف متكررة.
خلال الأسبوع الماضي قام جيش الاحتلال بشل حركة المواطنين في مناطق الوسط والشمال والجنوب في الضفة الغربية. كانت الصور الأكثر تداولا قادمة من رام الله، وتحديدا حاجز «عين سينا» شمال المدينة، الذي تحول من نقطة تمركز إلى ما يشبه الحاجز الرسمي، لقد التقط نشطاء صور عامة بعيدة عن الحاجز ظهر فيها عشرات آلاف المركبات المزدحمة مساء في انتظار الإذن بالمرور، لقد بدت الصور حاملة لجمالية فريدة لغير العالمين بالسياق العام للصورة، إضاءة السيارات على الاتجاهين كونت حبلا لا نهاية له من الإنارة الجميلة، لكن في العمق وداخل المركبات كان وجع المواطنين العائدين إلى منازلهم والمتلاعب بهم لا وصف له.
بعد ساعات من عملية الاحتجاز والإغلاق غالبا ما كانت تفتح الحواجز، وكأن شيئا لم يكن. على هذا المنوال عاش المواطنون أيام الأسبوع الماضي، حيث عاد الحديث عن الحواجز وثنائية فتح-أغلق الحاجز على «تطبيقات الحواجز على الواتس اب والتلغرام» ليكون هو الصدارة.
في ذات السياق انتشر كالنار في الهشيم فيديو لمواطن ساخر من أحوال الحواجز وحمل عنوان: «يوميات الفلسطيني في دولة الحواجز» حيث الحياة في مفردات فتح الحاجز وأغلق الحاجز.
المفارقة أن إجراءات الاحتلال لم تكن تترافق مع تصعيد في الضفة الغربية، إنما هي جانب من سياسات الأمر الواقع وتحويل المواطنين إلى حياة في الجحيم ومن ثم التكيف معها. قبل أسبوعين أغلقت بوابة عطارة التي تفتح على بلدة بيرزيت ومن ثم رام الله، وفي المقابل سلك المواطنون طريق حاجز جسر عطارة الذي لا يبعد عن البوابة المغلقة سوى مترات معدودة. وبين فترة وأخرى يغلق الاحتلال الجسر، وفي المقابل فتح الاحتلال بوابة النبي صالح المغلقة منذ أكثر من عام.. وأعاد إغلاق طرق أخرى، تلاعب لا مثيل له يحول حياة المواطنين إلى تقلب وقلق مستمرين.
وحسب الباحث باسل ريان فإن سياسات الاحتلال التي تقضي بـ«السيطرة على التحركية» تؤدي إلى إعادة هندسة الحياة الاجتماعية للسكان، وتكريس الفصل العنصري، وإعلان الوجود والحضور الدائم للاحتلال، وكذلك المراقبة، وتأصيل السلوك الضبطي في حياة المواطن الفلسطيني، ثم تكريس تقسيم الحيز وتفتيته، ما يساهم في تشويش صورته كوطن.
ويرى الباحث ريان أن مفهوم الحاجز يشكل ذاكرة جمعية في حياة الفلسطينيين اليومية، وتتكثف فيه صور القهر والسيطرة وضياع الزمن في سلاسل انتظار باتت مألوفة كمشهد يميز حياة من يتحرك في الفضاء المحتل؛ فهو يقوم بهندسة الحياة اليومية، ويفرض مع مرور الزمن فكرة تطبيع الحاجز، بمعنى أنه يصبح جزءاً اعتيادياً في حياة المحتل، بالإضافة إلى أنه يساهم في تغريب الساكنين عن المكان، وبهذا فهو يطور مصالح مختلفة للساكنين، ويتم تقسيم الجغرافيا إلى ما قبل الحاجز وما بعده، ويؤثر في الحياة الذهنية بحيث يميل الناس إلى الغرائزية عند التعامل مع الحاجز، من ميل إلى التذلل أحياناً، والانتهازية أحياناً أُخرى. كما يؤسس الحاجز لتصنيف اجتماعي صارخ، إذ يقسم الناس إلى فئات؛ فهو يسمح بمرور الضعيف والمريض ولا يسمح بمرور القوي، ويسمح بمرور مَن يحملون أنواعاً من التصاريح دون غيرهم، ويؤدي استمرار وجود الحاجز إلى التجريد من شعور الأمان، أو الحياة الطبيعية، أو السيطرة على الأرض والوقت.
الأمر الدائم
وحسب الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع فإن إسرائيل تتعامل مع الجغرافيا الفلسطينية ضمن مبدأ «الأمر الدائم» حيث تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية بما يضمن مصالحها الأمنية والسياسية على المدى الطويل.
ويضيف لـ»القدس العربي»: «هذا المبدأ يتجاوز مجرد السيطرة المؤقتة على الأرض إلى فرض واقع جديد يغير طابع المنطقة بشكل جذري ويضمن السيطرة الدائمة. يتم هذا عبر استراتيجيات تستهدف تحويل الجغرافيا إلى مناطق معزولة ومجزأة، ما يسهل التحكم والسيطرة على السكان ويعقد إمكانية نشوء كيان فلسطيني موحد».
وحسب مناع، «في القطاع، تُلاحظ هذه الاستراتيجية بشكل واضح، حيث تعمل إسرائيل على إعادة تشكيل القطاع وفصله إلى معازل منفصلة جغرافياً وسكانياً، كما هو الحال في الضفة الغربية، فالعمليات العسكرية المستمرة، والضربات الجوية التي تستهدف مناطق معينة، والسيطرة على نقاط العبور والحركة، هي أدوات لإعادة صياغة الواقع الجغرافي، ما يؤدي إلى تكريس العزلة بين أجزاء القطاع المختلفة».
أما في الضفة الغربية، فإن المستوطنات والحواجز العسكرية والجدار العازل تساهم في تفتيت المناطق الفلسطينية إلى جيوب معزولة، ما يحول دون تواصل جغرافي مستدام. الهدف من ذلك هو خلق واقع يصعب تغييره مستقبلاً، ويضمن أن تبقى السيطرة الإسرائيلية قائمة حتى في حال حدوث تسوية سياسية».
ويختم «الأمر الدائم» هو وسيلة إسرائيلية لإعادة تصميم الأرض الفلسطينية بما يتناسب مع احتياجاتها الأمنية وضمان هيمنتها على المدى الطويل، مع جعل أي حل سياسي مستقبلي أكثر تعقيدًا وصعوبة».
سؤال الضفة
يحاول محمد أبو علان، الخبير في الشأن الإسرائيلي، الإجابة عن سؤال: «ماذا تُخَطط إسرائيل للضفة الغربية؟» ويقول إن العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة في الضفة الغربية تجري منذ آذار/مارس 2022 وكانت في حينه من خلال عملية «كاسر الأمواج» التي هدفت لقطع سلسلة العمليات التي انطلقت من بئر السبع، وكانت الاعتقالات الإدارية عنوان تلك المرحلة، تبعها تكثيف للعدوان أكثر وأكثر مع بدء بلورة وتشكيل الكتائب في مخيمات جنين ونور شمس وطولكرم، وعرين الأسود في نابلس، حيث كان عنوان هذه المرحلة البدء باستخدام عمليات القصف الجوي في عمليات الاغتيال للمقاومين.
ويكمل: «كانت بعدها عملية البيت والحديقة في جنين ومخيمها، وعمليات أخرى في مخيمات بلاطة ومخيم الفارعة ونور شمس وطوباس، ومنها عملية مخيمات الصيف التي ما زالت مستمرة».
لا تتوقف هذه السياسات في التعاطي مع الضفة، فمنذ أسابيع، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن البدء بإدخال مدرعات إسرائيلية للمستوطنات في الضفة الغربية للمرة الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ولعدد من معسكرات الجيش القريبة من المستوطنات، أضيف إليها تعزيز فرقة الضفة الغربية في الجيش الإسرائيلي بمئات الجنود في إطار تعزيز الدفاع عن المستوطنات، وعن منطقة الخط الفاصل. ويطرح علان سؤال: «هل تحضر حكومة الاحتلال وجيشها بعد الحرب على غزة وعلى لبنان لعمل ما في الضفة الغربية أكبر مما يجري من اقتحامات واغتيالات ومصادرة أراضي وتوسع استيطاني؟
وحسب المحلل السياسي والخبير في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى فإنه بعد مرور عام على الحرب على قطاع غزة يتّضح التصوُّرُ الإسرائيليّ أكثر فأكثر لما يُطْلَق عليه «اليوم التالي» للحرب.
وترى ورقة الموقف الجديدة الصادرة عن مركز «مدى الكرمل» قراءة في التصور الإسرائيلي «لليوم التالي» للحرب على غزة، أن إسرائيل ترمي إلى فرض احتلال جديد للأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 لا إلى مجرّد احتلال من جديد، يعتمد -في الكثير من معالمه- العودةَ إلى واقع ما قبل أوسلو، مع ممارسة التهجير للفلسطينيّين في بعض المناطق، والإبقاء على حكم فلسطينيّ محلّيّ يدير شؤون السكّان مدنيًّا، وذلك لتحرير إسرائيل من الأعباء المدنيّة الواقعة عليها بوصفها دولة احتلال، بحيث يكون الحكم المدنيّ الفلسطينيّ تحت السيطرة العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة بدون أفق سياسيّ – وطنيّ تحرُّريّ، وتكريسه كوضع قائم للفلسطينيّين، ومتحرّك بالنسبة للمشروع الاستعماريّ الإسرائيليّ نحو مزيد من الاستيطان، ينتهي بضمّ مناطق واسعة من الضفّة الغربيّة. وتبقى المعضلة أمام هذا التصوُّر هي إنتاج إدارة مدنيّة فلسطينيّة في قِطاع غزّة تتماهى مع حالة الاحتلال الجديد للقِطاع.
وجاء في الورقة التي أعدها مهند مصطفى وحملت عنوان: «احتلال جديد، وليس من جديد للأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967» أن إسرائيل ترمي إلى توحيد الضفّة الغربيّة وغزّة، لا بمفهوم إقامة إدارة وسلطة واحدة للمنطقتين، بل المقصود توحيد نمط الاحتلال في المنطقتين، وهو عمليًّا نقل حالة الضفّة الغربيّة إلى قِطاع غزّة، بحيث تكون المنطقتان تحت السيطرة العسكريّة الإسرائيليّة مع وجود سلطتين منفصلتين في كلتيهما تكون مَهمّة كلّ منهما معالجة قضايا الناس المدنيّة بدون القيام بأيّ عمل سياسيّ أو وطنيّ في سبيل التحرُّر والاستقلال.
واعتبر مصطفى أن استشهاد يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مثل بداية الربط الإسرائيلي بين الصفقة وما يسمى «اليوم التالي لقطاع غزة» حيث يرى أن نتنياهو سيحاول المماطلة مرة أخرى حتى إتمام مشروعه في شمال قطاع غزة وفرض وقائع على تصور اليوم التالي لغزة.
وفي تعزيز قراءة المشهد في الضفة الغربية على إيقاع الحرب على غزة جاء في ورقة تقدير موقف صادرة عن «مركز مدى الكرمل» وحملت عنوان «التغيُّرات في سياسات إسرائيل تجاه الضفّة الغربيّة». وتدّعي أنّها تستغلّ الوضع الناشئ لتغيير سياسات الحكومات الإسرائيليّة اليمينيّة التي انتُهِجت في العَقدَيْن الأخيرَيْن، وعلى وجه التحديد منذ عودة نتنياهو إلى الحكم عام 2009. حكومات اليمين رفضت اتّفاقيّات أوسلو لكنّها تعاملت معها كأمر واقع، وعملت باستمرار على توسيع الاستيطان والسيطرة على الأراضي الفلسطينيّة، ولا سيّما محاولات ضمّ المناطق المسمّاة -وَفقًا لاتّفاقيّات أوسلو- المناطق «ج» مع الحفاظ على سلطة فلسطينيّة ضعيفة ومقيَّدة تدير الجوانب المدنيّة والاقتصاديّة في التجمُّعات السكّانيّة الفلسطينيّة الكبيرة.
وتتناول ورقة الموقف التي أعدها الدكتور امطانس شحادة سياساتِ وأهدافَ الحكومة الإسرائيليّة تجاه الضفّة الغربيّة منذ بداية حرب الإبادة على غزّة (تشرين الأوّل /أكتوبر 2023)
وحسب شحادة فإن الحكومة الحاليّة تستغلّ الوضع الناشئ منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2023 لفرض تغيير جوهريّ في واقع الضفّة الغربيّة، وترى فيه فرصة لتنفيذ أهداف وضعتها منذ تشكيل الحكومة الحاليّة. من ضمن ذلك محاولةُ إلغاء اتّفاقيّات أوسلو على أرض الواقع، وتعميق عمليّة إضعاف السلطة الفلسطينيّة أمنيًّا واقتصاديًّا وماليًّا، ربّما تمهيدًا لتفكيكها الكامل، وتوسيع الاستيطان وزيادة أعداد المستوطنين وضمّ فعليّ للأراضي الفلسطينيّة في المناطق «ج». أحداث السابع من تشرين الأوّل /أكتوبر العام الماضي لم تُنتِج هذا التحوُّل، بل أعطته دفعة وشرعيّة داخل المجتمع الإسرائيليّ، وعجّلت تطبيقه والمجاهرة فيه.
من التمترس للتوسع
أما الباحث في الشأن السياسي عبود الجواد عمر فيقدم قراءته للسياسات الإسرائيلية، ويقول: «من التمترس إلى التوسع، نرى دولة الاحتلال تسير في خطاها المعتادة، تلك الخطى المرسومة بأحلام الهيمنة والسيطرة. تغوص في غزة، لا كفاعل عابر بل كمستعمر يسعى إلى فرض وجود دائم، إما من خلال التهجير القسري أو بفرض بقاء طويل الأمد. هذه الدولة، المتشبعة بروح التوسع لم تسامح نفسها حين خرجت خلف الجدران في الشمال وفي غزة وتعلمت من خلال يمينها الاستيطاني أن التوسع والقتل هو الحل وأن الانسحاب خطيئة، تدخل اليوم مرحلة جديدة من حربها في لبنان، محاولة تفكيك عقدة متأصلة في ذاتها، عقدة تسللت إلي النفس الصهيونية من خلال شخصية الشهيد حسن نصر الله».
ويضيف: «في هذه الحرب التي تطول، تغرق دولة الاحتلال في السعي الحثيث نحو تغيير استراتيجي، معتمدة على امكانية توظيف الإمبراطورية الأمريكية لخوض حربها الكبرى بينما تنشغل في إشعال الجبهات تتابعا وتواتراً. يتنامى هذا السعي مع شعور بالانتشاء بتحقيق إنجازات، وبقدرة مفترضة على التضحية الكبرى التي وُلدت في لحظة سقوط جدران غزة قبل عام. اليوم، الروح والجسد الإسرائيلي باتا أرخص في سوق تبادل الأجساد، حيث أُسرى تُركوا لمصيرهم، وجنود يُقتلون بالعشرات والمئات، فيما تقف الدولة عاجزة أمام التغلب الحاسم أمام أعدائها. وفي ظل عدم الحسم، يكثر الحديث عن العبقرية الإسرائيلية في التخطيط الاستراتيجي».
ويختم الباحث عمر: «بعد سنوات طوال من قراءة ودراسة هذا المشروع، لا أرى عقلاً استراتيجياً بالمعنى العميق للكلمة، بل أرى عقلاً يعتقد أن المخاطرة أمر لا مفر منه في بعض الأحيان، وأن هذه المخاطرات تفتح آفاقاً جديدة، ويتقن فن العمليات تلك التي تفضي لآفاق سياسية تتضمن خيارات متعددة. يرى هذا العقل أن دفع أثمان مقابل تلك المخاطرات ربما يكون ضرورياً، وكأن التضحيات والإخفاقات تصبح جزءاً من مسار حتمي لا بد منه لتحقيق أهداف غير محسوبة بدقة. إنه عقل يتعامل مع الأزمات والتحديات بروح المغامرة المتكئة على فن العمليات نفسه، ولكنه لا يملك سوى رغبات: التخلص منا أو التخلص من سؤال يحوم حول رؤوسهم حول البقاء والوجود».