«بلدي تخلّت عنّي، ليس لي أن أُدير هذه الدولة، التي لا يمكن إدارتها، على ما يبدو، دون الاضطرار للمغامرة والخديعة، وأنا لست مؤهلا لذلك».
لست أنا من يقول ذلك عن إسرائيل. من قال هذا هو موشي شاريت، ثاني رئيس حكومة لإسرائيل، الذي ورث المنصب من دافيد بن غوريون، ثم ما لبث بن غوريون، بالحيلة والأحابيل، أن اطاح به وعاد إلى كرسي رئاسة الحكومة من جديد.
هكذا يعود بنيامين نتنياهو، كما تشير غالبية الدلائل المستندة الى ما تم تأكيده، حتى كتابة هذه السطور، من نتائج التصويت في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية أمس الأول، إلى تشكيل حكومة خامسة برئاسته، مثبتا بذلك انه اكثر السياسيين الإسرائيليين اتقانا لفنون المغامرة والخداع: يتبنى ايديولوجية يمينية عنصرية متطرفة. يحرض على الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. يحرض فئات المجتمع اليهودي في إسرائيل على بعضها البعض، مع تركيز متواصل في التحريض على ما يسميه «اليسار اليهودي». يحوّل كلمة «اليسار» إلى شتيمة. يشطب كلمة «الوسط» من قاموسه السياسي، ويصبح كل من ليس يمينا متطرفا يسارا منبوذا. يتهم هذا اليسار بالتآمر مع الأقلية العربية في إسرائيل، ليس للإطاحة به، وانما للإطاحة بحكومة اليمين. يستفيد من التهافت الرسمي في العالم العربي، تحت وطأة السوط الإسرائيلي، ووطأة العصى الغليظة الأمريكية التي يهدد نتنياهو بها أحيانا، ويستخدمها في أحايين أخرى، فتُفتح له، ولمبعوثيه، أبواب قصور حاكمين في هذا البلد العربي أو ذاك. يتقن اللعب في واشنطن وموسكو ونيودلهي، ويقدم ذلك على أنه انجازات سياسية له شخصيا، غير مسبوقة، وتبشر بخير عميم: القفز بمهارة إلى الضفة العربية دون الاضطرار لعبور الجسر الفلسطيني، مع ما يستتبعه ذلك من استحقاقات يتوجب على إسرائيل تقديمها. ينجح في مناوراته هذه، ويحصد الفوز في الانتخابات، ويبدأ في العمل على تشكيل حكومته الخامسة.
هذا نجاح واضح للحيلة والأحابيل، يستدعي أن يقدم جميع ناخبي نتنياهو وحزبه وأحزاب اليمين العنصري الفاشي في إسرائيل التهنئة لأنفسهم، ولنتنياهو قبل ذلك وبعده. لكنه نجاح لإسرائيل في الانزلاق أكثر وأكثر في مهاوي العنصرية والأبارتهايد التي يمقتها ويرفضها العالم المستنير. هذا زَبَدٌ على وجه ماء البحر.
ما تقدم لا يلغي ضرورة تسجيل أربع ملاحظات جوهرية في سياق ما نحن فيه من عرض واستعراض نتائج الانتخابات البرلمانية في إسرائيل للكنيست (البرلمان الإسرائيلي) الـ21:
1ـ لا يستقيم، بالمطلق، وضع كلمتي «الصهيونية» و«اليسار» في جملة واحدة. الصهيونية حركة استعمارية عنصرية، دينية في الأساس، ويسعون لإلباسها ثوب القومية العرقية، وكنهها ومبدأُها معاد للمساواة بأبسط وأوضح أشكالها، ومعاد لحق شعب كامل في أرض وطنه، بل وحتى في حقه بتقرير مصيره واستقلاله على أقل من ربع ارض وطنه. اما «اليسار» بمفهومه ومعناه العصري، فهو الحرية والتحرر والعدل والمساواة. أين هذا «اليسار» في ما يتعلق بالمساواة للفلسطينيين في إسرائيل، وما يتعلق بالاستقلال للفلسطينيين في الضفة الغربية، (والقدس العربية منها)، وقطاع غزة، وحق اللاجئين في العودة… حتى ولو كانت عودة منقوصة، آخذة في الاعتبار كل ما استجد من أوضاع في العقود السبعة الماضية من تلك؟
نتنياهو يتبنى ايديولوجية يمينية عنصرية متطرفة. يحرض على الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. يحرض فئات المجتمع اليهودي في إسرائيل على بعضها البعض، مع تركيز متواصل في التحريض على ما يسميه «اليسار اليهودي». يحوّل كلمة «اليسار» إلى شتيمة
2ـ عن الفلسطينيين العرب في إسرائيل والانتخابات لـ«الكنيست» الإسرائيلي:
يقول المفكر السياسي الفرنسي، (مونتسكييه على ما أعتقد)، يجب أن يكون لدى الدولة والمجتمع ثلاثة أحزاب: يمين ووسط ويسار، وأي واحد من هذه الأحزاب لم يصل إلى تسلّم السُّلطة، او المشاركة فيها، في ذلك المجتمع او تلك الدولة، خلال خمسة عشر عاما، يتوجب عليه أن يحِلَّ نفسه، ليفسح مجالا لوريث جديد، يسعى للوصول إلى السلطة. جميع أحزاب العرب الفلسطينيين في إسرائيل، منذ إنشائها قبل سبعين سنة، لم تشارك في السلطة. ليس هذا ذنبها. إنها بالطبع مرفوضة من جميع الأحزاب الصهيونية العنصرية: الحلوة، والسُّكّر قليل، والسّادة ايضا. لكن: ماذا عن التحالفات؟.
التفاخر أنك في المعارضة هو «تدليس»، باللهجة التونسية، والعربية الشمال أفريقية. ما لم يكن العرب الفلسطينيون من حاملي بطاقة الهوية الإسرائيلية، عاملا فاعلا في مسارات وسياسات الحكومات الإسرائيلية، فإن وجودهم في البرلمان الإسرائيلي، (الكنيست)، من عدمه، سيّان.
عندي قناعة كاملة أنه لو فك صديقي أيمن عودة تشكيلة «القائمة المشتركة» في الانتخابات السابقة على أساس فرض الاتفاق تبادل فائض الأصوات مع حركة «ميرتس» لكان أثبت أنه جدير بالثقة. لم يفعل ذلك. ولم يتعرض لعقاب لأنه كان حديث العهد، ولا رصيد ضامن في حسابه. ثم ارتكب الخطأ، حتى لا نقول الخطيئة، في مسألة المشاركة في «مظاهرة» تشييع جثمان شمعون بيرس، وكان تبريره «شبه المقنع» ذكرى استشهاد شقيق زوجته. ولم يعاقب. ثم لحق بكل ذلك ما يعرفه الجميع هذه الأيام من تحالفه المشين مع من كان أداة، وتحول لأن يكون أيمن، (وغيره كثيرون)، أداة بيده. لو خاضت الجبهة (للسلام والمساواة) الانتخابات الإسرائيلية وحدها، لنالت، وحدها، سبعة مقاعد، وربما أكثر. خاضها أيمن عودة مع الطيبي المعروف، فخسر وخسّرنا معه أربعة مقاعد في البرلمان الإسرائيلي المقبل.
3ـ عن الأخ محمود عباس، (ابو مازن)، وفلسطين:
يروون أن وينستون تشيرشل، رئيس الحكومة البريطانية في الحرب العالمية الثانية، فرح بأن يزِفّ للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، نبأ ان بابا الفاتيكان قد أعلن الحرب على المانيا الهتلرية النازية. فما كان من ستالين إلا أن سأل تشيرشل السؤال الاستفزازي الغبي: كم دبابة يملك بابا الفاتيكان؟.
لا يملك بابا الفاتيكان ولو دبّابة واحدة. لا يملك بابا الفاتيكان ولو كتيبة عسكرية واحدة. لكنه بابا الفاتيكان الذي يمثّل الخير والأمل، ويملك القوة المعنوية التي تحرك مئات الملايين من البشر.
بابا الفاتيكان، يوحنا بولس الثاني، البولندي الولادة والجنسية، كان في ثمانينيات القرن الماضي هو الروح الحية التي حركت ملايين البولنديين، وعلى رأسهم ليخ فاليسا في موانئ بولندا في تحرك قاد في النهاية إلى انهيار المنظومة السوفياتية وانهيار الاتحاد السوفياتي ذاته، مع ملايين دباباته وكتائبه وصواريخه وقنابله الذرية.
هذه هي حالنا مع الأخ الرئيس محمود عباس (ابو مازن):
لا يملك أبو مازن بندقية يمكن لها أن تقتل أو تجرح حتى جنديا من جيش الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. لكنه يملك الحق والعدل والمنطق السليم. هذا ليس سلاحا معنويا فقط. هذا سلاح يمكن استخدامه. وهو يملك القلم الذي حمله ذات زمن الرئيس الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، ورفعه وقال: ما لم أوقع بهذا القلم على أي اتفاق، فانه سيكون اتفاقا لا معنى له.
لكن شعبنا في هذه الأيام، يعاني مرارة ظلم الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. ولن يكون كما تمنى له مناحيم بيغن ان يكون.
يقول مناحيم بيغن في كتابه «التمرد»: «ربما أنه ليس هناك درجات في سُلّم السعادة. لكن في سُلّم المعاناة درجات. فإذا انزلت إنسانا إلى درجة المعاناة الأولى، فانه سيسعى وسيحاول الرجوع إلى درجة اللا معاناة التي كان عندها، ولكنك إذا أنزلته إلى درجة المعاناة التالية، فإنه يتوقف عن السعي والطموح إلى الرجوع إلى درجة اللا معاناة، بل يصبح طموحه هو العودة إلى درجة المعاناة السابقة والأقل مما هو فيه، ومع الوقت ينسى ذلك الإنسان، تقريبا، كل ما هو خارج سُلّم المعاناة».
مهما حصل ويحصل في إسرائيل، لن ينسى الفلسطيني حقه وسبب معاناته.
كاتب فلسطيني
المضمون فى هذه المقالة مفهوم ..ولكن التوقيتات تغيرت…ونادرا مايعيد التاريخ نفسه…