مساحات الصراع المباشر ليس من السهل أن تُفتح بعد، رغم التغير في معادلة الردع بين إسرائيل وإيران والتحول من الصبر الاستراتيجي إلى الردع الأكثر نشاطا من جهة طهران. يبدو أن الضجيج الإعلامي هو أكبر بكثير من المنجز الميداني، والدبلوماسية هي التي سترفع السقف عاليا من كلا الطرفين.
رغبة إسرائيل في ترميم صورتها المتهالكة عالميا، بسبب أعمال الإبادة والتهجير التي تخوضها ضد سكان غزة منذ أشهر، يجعلها تحاول أن تستثمر الرد الإيراني لتستعيد تعاطفا معهودا من قبل دول الغرب. وهذا ما حدث في مجلس الأمن، حيث تطالب إسرائيل بإدانة الفعل الإيراني متناسية إجرامها ومبادرتها إلى العدوان. والمفارقة أنها تبحث عن قانون دولي لم تعترف به يوما، أو تلتزم بمواثيقه ومعاهداته. في الأثناء، دول غربية منحازة، ومكبلة بازدواجية المعايير لم تدن الهجوم الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق، ولكنها سرعان ما نددت بالرد الإيراني، بل شارك بعضها في صده. ازدواجية وأخلاقيات محل شكوك عندما يشاهد العالم كيانا يقتل ويرتكب المجازر في غزة لمدة أشهر بمباركة غربية.
الشرق الأوسط أحد أكثر أماكن العالم المكدّسة بالسّلاح، وبجهد أمريكي بريطاني مشترك تمّ إبعاد شعوب هذا الإقليم عن بسط أيديهم على ثرواتهم النفطية أساسا، والأمر أوكل إلى حكومات فاسدة تتحكّم في الثروة التي تُبدّدها في شراء السلاح وعقد الصفقات. هذا الأمر الذي جعل الشرق الأوسط يحفل بسجلّ طويل من العنف والاشتباك. خلاصة الأمر: من يقبل بالدّور الذي يُرسم له ويُمجّد «مبادئهم الراقية جدّا» فهو آمن وعرشه محفوظ وإن أفسد في الأرض. أوهمُوهُم باختلاق العداء الإيراني، وأنسوهم العدوّ الحقيقي إسرائيل. ما جعلهم يفتحون الباب لأمريكا عبر إدارتها لثرواتهم لإحكام قبضتها على المنطقة من بوّابة المصالح الاستراتيجية، ولن يكون التعاون التامّ مع تلّ أبيب مستغربا أو بعيد المنال. ومن المؤسف حقّا أن يُعتبر نفط الخليج ضرورة لا غنى عنها لاستمرار التقدّم الاقتصادي لأمريكا ولأوروبا الغربية، في حين كان بالإمكان أن يساهم في تقدّم العالم العربي وازدهاره، ويساعد في حلّ القضية الفلسطينية، من بوّابة الضغط الاقتصادي وامتلاك إرادة الموقف السياسي الحقيقي والناجز. الرد الإيراني على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق يعد متغيرا استراتيجيا مُهما، بعد أن اعتادت إسرائيل أن تغتال من تريد، وتضرب في أي مكان، دون أن تتلقى ردا واضحا ومباشرا. وبقطع النظر عن مدى نتائج هذا الرد الإيراني ومشاركة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وحتى دول عربية في صده، دفاعا عن الكيان الصهيوني الذي اعتاد التعتيم على خسائره، فإن الاعتقاد السائد أن ما حدث فرض قواعد جديدة، على إسرائيل أن تحسب حسابها مستقبلا، رغم التحالف الذي دافع عنها. بمعنى هو بشكل ما لجم لكيان وظيفي أطلقوا يده ليعربد كما يشاء. أما الردود على الردود فستدور في إطار عقلاني بالتأكيد تجنبا لتدهور الأمور نحو حرب كارثية تضر بمصالح كثيرين في منطقة استراتيجية مثل الشرق الأوسط. والولايات المتحدة تخشى على مصالحها، ولا ترغب في انزلاق الأوضاع وتدحرجها إلى حرب إقليمية. هجوم إيراني محدود سبقه تنسيق مع أمريكا ومع دول المنطقة، ومحصلته رسالة لإسرائيل بأن لا تعيد ارتكاب مثل هذه الاستهدافات، كي لا تجبر طهران على رد لا يتحمله الخصوم، ضمن معادلة نفاد الصبر الاستراتيجي، الذي يمكن أن تعقبه خطوات تؤدي بالمنطقة إلى مواجهة مدمرة.
دول لم تستطع أن تحقق رابطا قوميا عربيا جامعا ووحدويا، ولم تدافع عن فلسطين، ليس لديها أي مشروع، وبقيت تدور في فلك أقطاب إقليمية ثلاثة هي تركيا وإيران وإسرائيل
مما لا شك فيه أنّ إضعاف إيران وإنهاكها ماليّا واقتصاديا منذ سنوات، يأتي ضمن مخطّط أمريكا لتعجيزها وتحجيم مكانتها كقوّة إقليمية لها نفوذ، بما يضمن تعزيز مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، بوصفها الحليف الأكثر ولاء لأمريكا والأقوى في المنطقة. وبالطبع ما يهمّ القوى الكبرى هو النفط الخليجي إلى جانب حماية إسرائيل. اليوم، هناك شبه اتّفاق على عدم المجازفة بحرب في الوقت الراهن بين المعنيين بالتصادم، حين يصدر عنهما الموقف نفسه، وإن تلبّس بالكبرياء. أمريكا تريد الاستمرار في العقوبات والخنق الاقتصادي، وطهران ترفض منطق الإكراه وسياسة الأمر الواقع التي تريدها واشنطن وتل أبيب. ولكن المؤكد أنّ ما يتهدّد المنطقة من مخاطر مازال قائما ببقاء التصعيد الذي يؤجّجه وكلاء واشنطن وطهران كلّما خفّت وتيرته. وعلى دعاة الحرب أن يدركوا أنّ أي تصادم عسكري بين أمريكا وإيران بعد أن تشعله إسرائيل سوف يجرّ المنطقة إلى جحيم إقليمي، بتداعيات لا يمكن السيطرة عليها. الحرب التي ينتظر البعض أن تأتي من إسرائيل وأمريكا وتستهدف إيران يبدو أنّها مجرّد سراب، ولا تتعدّى العزف على وتر الفزع وتوظيف التخويف لتحصيل مكاسب مالية واستراتيجية لمن في مصلحته إبقاء الجميع في حالة توثّب وقلق واضطراب. وهي سياقات تُراكم عملية اختراق العالم العربي تحت ستار الأكاذيب والخطاب الخاوي الذي يضمر عكس ما يظهر. فالتهديدات الأمريكية الإسرائيلية لطهران ليست جديدة، وتصعيد لهجة الحرب يرافقه ارتفاع رهان الكسب ومطالب تحقيق أقصى المنافع، على نحو الانطباع الخادع الذي توفّره الولايات المتحدة لحلفائها العرب في المنطقة.
ركيزتان أساسيتان للسّياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط: أوّلهما ضمان أمن إسرائيل وتفوّقها العسكري، وهو ما يبرّر كلّ ما تقوم به الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا في الهيئات الأممية منذ عقود وازداد اتّضاحا ضمن معركة طوفان الأقصى، وثانيهما أن تضمن واشنطن لنفسها تدفّق النفط من منطقة الخليج وتحافظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. ومازالت واشنطن وتل أبيب إلى الآن تستغلان مشاعر الخوف والرفض المعهود لنفوذ إيران الإقليمي من قبل البعض، بما يسهّل عملية ضمّ هذه الدول إلى صفّ إسرائيل ضمن «لوبي إسرائيلي عربي» لمواجهة «عدو مشترك». هي مقايضة صريحة ستعيد إسرائيل العمل عليها حتى بعد حربها الهمجية على غزة، على نحو الدفع من جديد نحو التطبيع العلني. وتبعا لحسابات واشنطن وكيانها الوظيفي في المنطقة لن تخوض أمريكا حربا مباشرة ولن تنوبها إسرائيل في مواجهة تدرك حجم خسائرها لمجرّد خدمة مصالح بعض دول الخليج التي لا تعلم إلى الآن أنّ نبرة العداء المتبادلة بين طهران وتل أبيب والمستمرّة منذ عقود تخدم كلا الطرفين في توطيد نفوذهما الإقليمي.
هي استراتيجية فيها من الوشائج ما يدعم الإبقاء على الخطاب الدعائي ولغة التهديد والصراع بالوكالة، كأدوات ذرائعية لتحقيق أهداف جيوسياسية. في المقابل، العالم العربي يمرّ بأسوأ اللّحظات الحرجة في تاريخه، والأنظمة الرسمية هي أساس التخاذل وعنوان الرداءة. تركت الثروات الاقتصادية الهائلة وفي مقّدمتها النفط محلّ نهب واستنزاف من قبل القوى الغربية التي طوّرت بُناها المادية، وأثْرت قطاعاتها بفعل هذه الموارد، التي لم تُستخدم لتطوير المنطقة وخدمة شعوبها. دول لم تستطع أن تحقق رابطا قوميا عربيا جامعا ووحدويا، ولم تدافع عن فلسطين، ليس لديها أي مشروع، وبقيت تدور في فلك أقطاب إقليمية ثلاثة هي تركيا وإيران وإسرائيل، ناهيك من أجندات القوى الكبرى وصراع الهيمنة والتنافس.
كاتب تونسي