إسرائيل: سنشتري “الشرعية” بـ “إدخال المساعدات” ونحقق السيناريو الذي نريده في غزة

حجم الخط
0

 في ختام اليوم الرابع للعملية البرية في شمال القطاع يتبدد ضباب المعركة بالتدريج. محاصرة وربما بتر، هذان هما التعبيران اللذان يلخصان هذه المرحلة في القتال. غزة وبناتها محاصرات عملياً؛ نشأ قاطع أمني يحيط بها، ويفترض أن يمنع دخول الناس والمؤن من الخارج ولا يسمح بالخروج إلا عبر ممرات يحددها الجيش الإسرائيلي. هذا هو غلاف غزة الجديد – يغلف ويوثق ويضغط.

 يبدو أن الحصار بات “بتراً” جنوبي مدينة غزة. أفق وادي غزة بات يفصل شمالي القطاع ووسطه، وما من خارج أو داخل. خطط “بتر” غزة عرْضاً طرحت من قبل جولات قتالية سابقة ولأسباب مختلفة لم تنفذ، أما هذه المرة فتنفذ.

بخلاف الجولات السابقة، يدور الحديث عن توغل عميق، ليس فقط إلى أراض زراعية وهامشية للمنطقة المبنية، بل إلى أحياء مأهولة. والثمن باهظ جداً. المجتمع الإسرائيلي قادر على الصمود، لكنه لم يفعل إلا إذا عرف أن لهذا الثمن غاية، وأن خلف هذا الجهد ودم المقاتلين خطة مثبتة، عملية، قابلة للتحقيق.

إن سيطرة الجيش الإسرائيلي دراماتيكية: فهي تخلق وضعاً جديداً على الأرض وتفتح باباً لعدة إمكانيات، كل وحدها، وبعض منها بالتوازي. إحدى الإمكانات هي أن تفقد حماس ما تبقى لها من سيطرة وتتفكك، ثم رفع أعلام بيضاء من فوق البيوت المتبقية في مدينة غزة، وفوضى تنتشر في الشوارع، حينئذ يمكن القول إن هدف الحرب المركزي قد تحقق، أما في الجانب السلبي فسيترك 240 مخطوفاً من إسرائيل لمصيرهم، وهو سيناريو بعيد في هذه اللحظة – حماس لم تتفكك بعد. على الرغم من ذلك، الجيش يدرك الخطر ويستعد.

ثمة إمكانية أخرى، وهي تصفية يحيى السنوار ورفاقه في قيادة حماس. والإمكانية الثالثة أن تتعرض المنطقة المحاصرة لمصيبة إنسانية؛ فتمارس الإدارة الأمريكية والأسرة الدولية ضغطا على القيادة السياسية ينهي وقف العملية.

وثمة إمكانية رابعة، وهي وقف القوة عن السير بعد انتهاء السيطرة على محيط غزة. حسب تجربة الماضي، يصعب على إسرائيل خوض حرب استنزاف من هذا النوع. اصطلاح “المراوحة” يحتل الشبكة. وسيبدأ المقاتلون بالشكوى وسيجد الجمهور في الجبهة الداخلية صعوبة في تلقي أنباء سقوط الجنود بمحبة.

لقد بدأت الحرب في نقطة لم يسبق أن كان لها مثيل في أي من حروب إسرائيل: نصف الجمهور يكن ثقة لقيادة الجيش؛ 7 في المئة فقط يكن ثقة بزعامة رئيس الوزراء العسكرية. حرب استنزاف في ضواحي غزة أمر أخير يرغب الإسرائيليون في تجربته.

لعله المكان لقول شيء ما عن المساعدة الإنسانية. المذبحة التي جرت في الغلاف لم تترك لدى قيادة الجيش أي أم تريزا، وهذا مفهوم تماماً. فالاستعداد لفتح ممرات للمساعدة الإنسانية لا ينبع من حساسية وضع الفلسطينيين في القطاع، بل من حاجة حيوية للزمن والشرعية ودعم البيت الأبيض. الغذاء يشتري الزمن؛ والمياه تشتري الزمن، والأدوية تشتري الزمن.

سياسيون سائبون مثل بن غفير غير قادرين على استيعاب هذا؛ إذ لا يهمهم تعريض مصلحة قومية للخطر من أجل عنوان في الصحيفة. التموين الإنساني الحالي لا يكفي، فهو يتعرقل لأسباب عملية وقدرة تنفيذ. لإسرائيل مصلحة في زيادته وبسرعة. وهي تجري اتصالات مع فرنسا ومصر بهدف إقامة مستشفى ميداني في الجانب المصري، قرب الحدود. 200 سرير. سفينة مستشفى توفر 200 سرير آخر. مشكوك أن هذا سيجعل مديري مستشفى الشفاء في غزة ينقلون المستشفى جنوباً، لكنه سيشتري لإسرائيل زمناً وشرعية.

لا يوجد تضارب مصالح بين الولايات المتحدة وإسرائيل في المسألة الإنسانية باستثناء موضوع واحد – الوقود. عندما تحدث الناطق العسكري دانييل هغاري بالإنكليزية عن الوقود الذي خزنته حماس في إنفاقها كان يقصد عنواناً واحداً – البيت الأبيض. فقد سعى ليثبت للأمريكيين بأنه لا توجد مشكلة وقود في غزة.

غير أن للأمريكيين أيضاً وليس فقط للإسرائيليين، اضطرارات سياسية. فالدعم الذي لا لبس فيه من جانب بايدن لإسرائيل جعله – مؤقتاً – المحبوب بين الرؤساء هنا، لكنه مس به في الاستطلاعات داخل أمريكا. الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي لم يحب العناقات التي أغدقها الرئيس على الإسرائيليين ومساعدته السخية التي وعدهم بها.

لذلك، فإن حساسية الإدارة للمس بحقوق الإنسان في غزة ارتفعت؛ كما احتدمت أيضاً ردود الفعل على الأذى الذي يوقعه “فتيان التلال” [المستوطنون] بالفلسطينيين في الضفة. كما اشتدت أيضاً الضغوط الأمريكية لصفقة مخطوفين: فهم يضغطون على قطر وعلى إسرائيل أيضاً.

إسرائيل بحاجة اليوم لأمريكا أكثر من أي وقت مضى. ولهذا ثمن.

هكذا مثلاً، فرض البيت الأبيض على إسرائيل استئناف اتصالات الإنترنت من غزة. الإنترنت ليست دواء، بل عكس هذا في أحيان قريبة. لكن وسائل الإعلام الأمريكية صرخت بأنهم لا يسمحون لها بالعمل، والبيت الأبيض بحاجة لوسائل الإعلام.

دولتان تشاركان في الاتصالات مع حماس حول موضوع المخطوفين، هما قطر ومصر. كل منهما تعمل مع الأخرى ووحدها أيضاً، ولكل مصالح خاصة بها. مصلحة قطر واضحة؛ فهي تسعى كي تواصل، زعماً، خدمة كل الأسياد، من حماس حتى البيت الأبيض، وبذلك تثبت مكانتها في الشارع العربي والإسلامي وتحصن نفسها من النقد.

 مصر غير مستعدة لاستيعاب الفلسطينيين في أراضيها: من ناحيتها، هي محقة. اقترح السيسي إرسال مئات آلاف اللاجئين إلى النقب، وهي فكرة رفضتها إسرائيل قطعاً، وهي محقة. فإسرائيل لن تقيم حبسا لمئات آلاف الفلسطينيين، لكن عليها أن تتعاون مع دول أخرى في إقامة مدينة خيام كبرى في “غوش قطيف” سابقاً. وسيتعين على المغني حنان بن آري، أن يؤجل حلمه في رؤية عودة إسرائيل إلى “غوش قطيف”.

هكذا تجري الاتصالات: المبعوث الأمريكي يضغط بقوة على رئيس الوزراء القطري، الذي يضغط على حماس الخارج في قطر التي تضغط على حماس في غزة. وعندما يصل الضغط إلى السنوار سيخف كثيراً.

مجال التوافق ضيق. حماس رقت قليلاً، ربما نتيجة للعملية البرية. كما أن الجانب الإسرائيلي أبدى استعداداً للمرونة. لا صفقة على الطاولة الآن، بل أحاديث عن صفقة جزئية. لم ينضج أي شيء في النهاية.

رئيس الموساد دادي برنياع، أرسل للحديث مع القطريين. يشارك برنياع الفريق العسكري المسؤول عن معالجة موضوع المخطوفين. على نحو منفرد، وصل يوسي كوهن إلى قطر. في قطر فرحوا؛ أما الجيش الإسرائيلي فتميز غضباً. ها هو نتنياهو مرة أخرى مع سياسة فرق تسد خاصته. كوهن هو عضو “كابينت مستشارين” أقامه نتنياهو، بالتوازي مع “كابينت الطوارئ”. ادعى كوهين أنه سافر بإذن وبتخويف. ولتهدئة العاصفة، قال نتنياهو للجيش إن كوهين غير مخول للحديث باسم الحكومة في موضوع المخطوفين. يبدو أنه سافر إلى قطر لأنه راق له السفر إلى قطر. لم يصدق أحد التفسير.

في هذه الأثناء، تخسر إسرائيل في أبعاد ثلاثة مهمة: الزمن، والمال، والشرعية. المرحلة الأولى من الحرب التي تخوضها إسرائيل، تطلبت تحرراً من الصدمة الكارثية وإنزال النار على القطاع من الجو والبحر والبر؛ وجاءت العملية البرية في المرحلة الثانية؛ ثم تسوية السيطرة في غزة التي يجب أن تحل يفترض في المرحلة الثالثة. ليس للحكومة خطة متبلورة في هذا الموضوع، وليس لها طريق لتشرح كيف تؤدي المرحلة الثانية إلى الثالثة.

هذا هو أحد هموم الأمريكيين الكبرى: ضمان ألا تحبط إسرائيل المسيرة السياسية التي ستحل بعد استقرار الوضع، وألا تدخل إلى مغامرات عسكرية على الطريق.

نتنياهو يحب المداولات الطويلة، كثيرة البروتوكولات وقليلة القرارات، في أثناء الحملات العسكرية. على خلفية أزمة الثقة بالقيادة، أقام غالنت كابينت خاصاً به. ويتنقل رئيس الأركان من مداولات إلى أخرى بدلاً من أن يدخل إلى مداولات عملياتية بهدوء، برأس نقي. ومثله زملاؤه في قيادة الجيش الإسرائيلي. عندما بادر نتنياهو إلى مؤتمره الصحافي، مع غالنت وغانتس، أراد أن يجلس رئيس الأركان هرتسي هليفي خلف الطاولة، مع إدارة ظهره إلى الإعلام. مكتب رئيس الوزراء طلب. وقال الجيش: لا. رئيس الأركان تخلى عن الشرف. وأخمن أنه لم يندم على الرفض.

 ناحوم برنياع

 يديعوت أحرونوت 1/11/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية