يبدو أن الدورة التاريخية اكتملت في الحالة الإسرائيلية، فقد بدأ الصراع، أربعينيات القرن الماضي إسرائيليا ـ فلسطينيا وهو اليوم يعود إلى طرفي الصراع نفسيهما، إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين، بعدما راكمت المقاومة الفلسطينية قوتها الذاتية، بالقدر الذي يضع إسرائيل في الوقت الراهن أمام الذات، وتتأكد حقيقة، من وجود الفلسطينيين فوق أرضهم، بقُدُرَاتهم الوجودية بالكامل. فاللحظة وما تكَثَّف من قوة حضور بيّن، هي التي تجعل إسرائيل تواجه ذاتها، وهي تنظر إلى الفلسطينيين والفلسطينيين وحسب، وهي تصارع الفلسطينيين والفلسطينيين وحسب. ووقوف إسرائيل اليوم أمام الذات يجعلها لا تراجع حساباتها فقط، لأنها قامت بذلك، بل تبدأ في العد التنازلي الذي تُتَابع فيه تقلص وجودها في منطقة «تتكلم عربي» بعد أن حاولت أن ترغمها أن تتكلم بالعبري!
اجتياح المقاومة الفلسطينية لما بعد حائط العار، والقيام بعملية حربية منظمة على أعلى طراز، كبَّدت فيه العدو ما لم يقَدِّره ولم يكن يرد في باله، لا في حالة سبات عميق ولا في نوم يقظة، ولعلّ هذا كفيل بأن يعيد الوعي إلى نصابه، لتبدأ حالة الانكماش الوجودي للدولة العِبْرية القائمة عنوة على باطل تاريخي، توارى منذ زمن طويل، ونقصد نظام الأبارتهايد البغيض. فقد تأخر جدّا النظام الاستعماري الإسرائيلي في المنطقة العربية، وتأخر تحرير أرض فلسطين، وآية ذلك وجوب تحقيق ما يلازم تاريخ اليهود: الحل النهائي الذي يؤكد نفي إمكانية وجود دولة قائمة لهم. ومن هنا بداية الصراع مع الذات، الذي لا يقبل كثيرا العناد مع الوجود الحقيقي، الذي تفرضه الدول الاستعمارية كما جرى بالأمس، بل بما يقِرُّه المجتمع الدولي، في أهم لحظات الزمن المعاصر بكل كثافته، الذي يَدّخِر كل شيء بما في ذلك رصيد المقاومة، التي انتقلت من انتفاضة الحجارة إلى طائرات بلا طيار «الدرون» وإمكانية وصول صواريخ المقاومة إلى كل إسرائيل.
السلطة الإسرائيلية لا ترغب في العيش في مجتمع دولي يسعى دائما لإضفاء الشرعية على مؤسساته، بل هي حالة شاذة وصلت لبناء سجن كبير يسع لأكثر من مليوني شخص في قطعة من الأرض تعرف بغزة
هذا المشهد الجديد هو الذي يطلق عليه، السابقة غير المعهودة في حروب ومعارك ومداهمات إسرائيل مع الفلسطينيين، والذي يجب أن يؤسس عليه مصير إسرائيل ووجودها في المنطقة، لأن كل ما يجري يعزى إلى سياستها الرعناء التي تلح دائما على إظهار حالة إفلاس سياسي، على ما يبرهن عليه اليمين الإسرائيلي في إخفاقات متكررة ومتتالية في تشكيل حكومة تستقر على ما يعيد للذات النظرة الصائبة للأمور.. لكن هذا الفشل الذريع هو الذي أوصل هذه السياسة إلى حرب حامية الوقع والوطيس مع المقاومة الفلسطينية. فقد زاد اليمين الإسرائيلي من تطرفه إلى أقصى اليمين ولم يعد بوسعه أن يزيد.. بل سقط أسفل الجدار، على ما يقول الفرنسيون، وبقي مصرا على الاستثمار في إلحاق الضربة الموجعة بالفلسطينيين، كأفضل سبيل إلى الوصول إلى الحكم والبقاء فيه.. لكن هذه المرة وبعد مرور دورة نصف قرن عن الحرب المباغتة أكتوبر/ رمضان 1973، لم يعد الأمر في مواجهة العرب والمسلمين، بل في مواجهة الذات نفسها، عندما تفشل في تشكيل حكومة وفي الاستثمار في الحرب، وتلك هي المعضلة الإسرائيلية القائمة اليوم.. ولم يحن الوقت بعد لمن يتقدم ويسعى إلى إنقاذ «دولة في موضع إسعاف». التاريخ ليس هو الماضي وحسب، بل هو ما نتطلع إليه خاصة في لحظة معاصرة لا تقبل النسيان، ولا تهمل أي شاردة وواردة في هذا العالم، الذي لا يكف عن الحراك، الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير في التصعيد المقبل للمقاومة الفلسطينية بعد هذا الإنجاز الرائع، الذي حققته في أرض رسمتها السياسية العسكرية على أنها أرض إسرائيل، لكنها اليوم سوف تعترف بأنها بصدد حالة جديدة وهي، أن هناك شعبا فلسطينيا يرفض الظلم الذي يلاحقه من نظام أبارتهايد بَغِيض بُغْض الدولة العِبْرِية ذاتها التي توَكَّأت في نشأتها لما بعد الحرب العالمية الثانية على خطيئة أصلية تدفع ثمنها اليوم وستواصل دفع الثمن، غدا بما هو فادح وفظيع، ما دامت المقاومة الفلسطينية ترنو إلى إنجازات نوعية أخرى قابلة للتحقق في أرض مغتصبة ولها أصحابها. ما يجب التفكير فيه هو، أن نوعية إنجاز المقاومة الفلسطينية المقبل سوف يساير التاريخ العِبري، ويُجاري المسار الذي يفضي إلى تدمير المعبد بالكامل، ما دامت العقلية اليهودية تأبى المصالحة والسلام، ولا تقوى على العيش المشترك. فقد وصل سلاح المقاومة إلى كل إسرائيل وعَبْر كل الطرق والجهات، بما في ذلك السماء والبحر، فكيف ستكون عليه الحرب المقبلة؟ الغالب هو الحل النهائي، ليس لأن الإنجاز النوعي المقبل للمقاومة سيكون له الدور الأقوى والحاسم فقط، بل لأن مسار ومصير السياسة الإسرائيلية العاجزة دائما هي التي ستتجاوب مع هذا القدر المحتوم، ويمكن أن تعطي مؤشراتها مراكز البحث العلمي ومخابر الدراسات التاريخية والسياسية والاستشرافية المستقرة في اللا وعي والعقل الباطني ولا ترغب الدوائر الموالية لإسرائيل البوح بها لأنها تطاردهم في الحلم واليقظة ككوابيس وهواجس تربك دائما تفكيرهم.
السلطة الإسرائيلية ليست دولة ترغب في العيش في مجتمع دولي يسعى دائما إلى إضفاء الشرعية على مؤسساته، بل دولة إسرائيل حالة شاذة أوصلتها إلى بناء سجن كبير يسع لأكثر من مليوني شخص في قطعة من الأرض تعرف بغزة. فقطاع غزة هو أكبر سجن مفتوح على العالم وسمائه وهذا هو الانجاز النوعي الذي قدمه نظام الأبارتهايد للشعب الفلسطيني، وعندما يكون هذا هو وضع الشعب الفلسطيني فإن المقاومة من داخل السجن، لا بد أن تفكر دائما في الحل النهائي لأنها دائما معرضة إلى التصفية والتدمير من أعلى طراز، ليس بالإعدام عبر المقصلة، بل بالتفجيرات المزلزلة للأحياء والمباني والمؤسسات، على ما شهدنا طوال المعارك السابقة، ونشاهد في الحرب القائمة التي ليست في التعريف الأخير إلا لحظة وصول السَّجان ليخرج السجناء من العنابر والأقبية إلى ساحات الإعدام الجماعي. وتلك هي عقلية الصهاينة: سياسة تبحث عمن يعدمهم وإذا لم يجدوا أعدموك. تاريخ ما بعد السابع من أكتوبر 2023، هو تاريخ آخر لإسرائيل عندما تلتقي في آخر المنعرج مع الفلسطينيين، كما عرفتهم في بداية نشأتها، وتنظر إليهم بالقدر الذي يمكنها من النظر إلى ذاتها والتعرف على ملامح وجه لا يعلوه أي بثور، لا يخالطه أي تشويه، لأننا في لحظة كشف الحقيقة على ما هي في الوجود الحقيقي، وليس على ما تحاول أن تظهره أو تتستر عليه المنابر الصهيونية وبلاتوهات وقنوات اليمين المتطرف سليل استعمار بغيض ولّى في كل بلاد الدنيا إلا في إسرائيل.
كاتب وأكاديمي جزائري