جرت في سوريا الأسبوع الماضي عدّة غارات جوّية غامضة، أوّلها كان قصفاً إسرائيليّاً من الأجواء اللبنانية لمواقع سورية قالت الصحف الإسرائيلية أنه استهدف عمليّات لنقل أسلحة ثقيلة لـ«حزب الله»، وثانيها استهدف قريتي كفريّة والفوعة المواليتين الشيعيتين في محافظة إدلب والمحسوبتين على إيران وقد تم تداول أنباء عن سكان المنطقة قالت إن الطيران القاصف كان روسيّاً، وثالثها استهدف جنوداً من قوات النخبة التركية قرب بلدة الباب السورية وزعمت روسيا إنها لم تكن وراءه كما أنها برأت طيران النظام السوري من مسؤوليته.
تبدو هذه الغارات شكلاً من المناورات بين خصوم يحاول كل واحد منهم إعادة موضعة الآخر ضمن علاقات شديدة التعقيد تتراوح بين التحالف السرّي والعداوة المبطّنة.
بعض المحللين رأى في الغارة الإسرائيلية الأخيرة قرب دمشق رسالة توجهها حكومة بنيامين نتنياهو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها لا تقبل بتحدي خطوطها الحمراء، غير أن صمت القيادة الروسية البليغ وسابقتها المعروفة بتشكيل آلية للتنسيق العملياتي مع تل أبيب، قد يتجاوز، في معناه، عدم الاعتراض إلى نوع من القبول والاستخدام الضمنيّ للغارات الإسرائيلية لتقويم أظافر إيران وإعلامها بحدودها الممكنة.
تعطي الغارات الجوّية «الغامضة» على البلدتين الشيعيتين في محافظة إدلب السورية مصداقية للتحليل السابق، وتعطيه زخماً (وتعقيداً) أكبر، وهذه الغارات التي لم يعترف بها أو ينكر مسؤوليته عنها أحد، لا يمكن اتهام أحد غير روسيا بها، فلا الطيران التركيّ يستطيع المغامرة تحت عين الأمريكيين والروس بقصف بلدتين شيعيتين محسوبتين على إيران، ولا مصلحة أيضاً لطيران التحالف الأمريكي، الذي لم يُعرف عنه هدف غير قصف تنظيم «الدولة الإسلامية» و»جبهة فتح الشام» («النصرة»)، أن يتورّط فيها، وهو الذي اعتذر قبل أسبوع عن استهداف جنود سوريين بطريق الخطأ في دير الزور قبل أكثر من شهر.
جاءت إشارات ذات دلالة من إيران أمس مع إعلان امتلاكها أسهما في شركة ألمانية تبيع غوّاصات لإسرائيل، كما قدّم هاشمي رفسنجاني، رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، قبل أسبوع تلميحات تليق بالطابع الباطني للمناورات السياسية والعسكرية الجارية حين تحدث عن الملك قورش الذي تزوج إستير اليهودية وفكّ أسر اليهود من أسرهم البابلي… وأعادهم، حسب الحكايات، إلى فلسطين، في إشارة متعددة الدلالات، ولا يخفى توجهها بدون مواربة لمحاباة إسرائيل وطمأنتها إلى أن النفوذ الإيراني في المشرق العربي سيكون لصالحها وليس لصالح الفلسطينيين أو العرب.
ما يُدهش في كل هذه النقلات الشطرنجية أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد مواقع للنظام السوري أو «حزب الله»، الذي قام بعرض عسكريّ بالمدافع والدبابات والآليات الثقيلة في مدينة القصير السورية ولم يتعرّض خلالها لهجوم إسرائيلي عليه، هو تواطؤ كل الأطراف على اعتبارها من عاديّات الأمور، فلا «حزب الله» عاد يهدّد بالرد «في الوقت المناسب»، ولا نظام دمشق ينتهزها فرصة للحديث عن مقاومة إسرائيل و«ممانعتها».
إضافة إلى كون هذه الضربات وسيلة لتحديد «أوزان» الملاكمين الذين يلعبون على الحلبة السورية، فإنها تريد تأكيد قضيتين أساسيتين:
الأولى هي ضرورة بقاء النظام السوري مع تذكيره كل فترة بضرورة انضباطه ضمن سلّم طبقات البلطجة العالمية.
والثانية هي تركيز جهود الجميع على هدف واحد: قتل أكبر عدد ممكن من السوريين لإنهاء أي إرادة أو أمل بالتغيير، ونشر هذه الرسالة عبر المنطقة العربية.
الضربات إذن هي لتحديد الأحجام وعدم الانشغال عن القتل المعمم لشعب لا يريد أن يقبل بالاستبداد.
رأي القدس
إيران لو اشعلت لكم أصابعها كالشمع فلن ترضو عنها فقررت أن تشعل قلوبكم غيرة