إسرائيل ولبنان… رادعان ومردوعان

حجم الخط
0

للدم اللبناني سعر باهظ، تتردد إسرائيل كثيرا في التجرّؤ على سفكه. وهذه حقيقة مفرحة، تستدعي تقديم التهنئة لكل لبناني، وتستدعي تقديم الشكر للجيش اللبناني ولـ»حزب الله» الذي يردع الغطرسة الإسرائيلية، ويجبرها على ان تحسب الف حساب قبل ان ترتكب حماقة قتل او جرح أي لبناني، جنديا كان او مقاوما او مواطنا مدنيا.
دليلنا على ذلك، هو ما نلاحظه ونتابعه حول التطورات الخاصة بـ«الحملة» الإسرائيلية لكشف وسدّ وإبطال مفعول الانفاق التي حفرها «حزب الله» اللبناني، من داخل الاراضي اللبنانية الى داخل الحدود الإسرائيلية في شمال الجليل، والتي تقترب من نهاية الاسبوع الثاني لاطلاقها، دون ان تتفجر، حتى الآن، وتتطور لاشتباك عسكري، وربما معركة كبيرة، او حلقة في مسلسل حرب «الغزوة الصهيونية» التي انطلقت، ولم تنتهِ بعد.
كثير من الإسرائيليين، بينهم قادة سياسيون وجنرالات وكتاب وصحافيون، انتقدوا وصف السلطات هناك للنشاطات العسكرية الهندسية واستخدام افضل الخبرات والاجهزة التكنولوجية المتطورة، باشراف الجيش الإسرائيلي، بانها «حملة»، وذلك لاقتصارها على نشاطات واعمال هندسية داخل الحدود الإسرائيلية بشكل دقيق تماما. وردّ غالبية المنتقدين لهذه التسمية الى حاجة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لحرف انتباه الرأي العام عنده، عن توجيه الشرطة وبعض الجهات القانونية لاتهامات رسمية معلنة وموجهة له بالرشوة وسوء الإئتمان، والدفع باتجاه تقديمه للمحاكمة، في واحد من اربعة ملفات قضايا فساد تطال نتنياهو وافرادا من عائلته واقاربه وكبار مساعديه، وذلك استنادا لتحقيقات معمّقة، وعلى مدى اشهر عديدة.
لكن، ومهما كانت التسمية الدقيقة لما يقوم به الجيش الإسرائيلي من نشاطات على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع جنوب لبنان، منذ عشرة ايام، فانه يكشف عن خشية حقيقية من استفزاز حزب الله والجيش اللبناني، او حتى اعطائه ذريعة ومبررا للمبادرة الى اشتباك عسكري وتفجير معركة يتجنب الجيش الإسرائيلي خوضها.
بدا ذلك واضحا منذ اللحظة الأولى التي بادرت إسرائيل فيها الى هذا النشاط. حيث عملت على صعيدين متناقضين:
ـ اولهما، إثارة حالة من التوتر الشديد في الساحة الإسرائيلية الداخلية، من خلال إخراج مسرحي حول هذه «الحملة»، حيث اعلن عن لقاء عاجل، وغير مقرر من قبل، لنتنياهو مع وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في بروكسل مساء الاثنين من الاسبوع الماضي، ثم حشد المراسلين العسكريين لوسائل الاعلام الإسرائيلية غداة ذلك اللقاء صباح يوم الثلاثاء، مع انطلاق النشاطات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان، ولحق بذلك عقد مؤتمر صحافي مشترك لنتنياهو ورئيس اركان الجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت، في الساعة الثامنة مساء، ببث مباشر، في ساعة الذروة، للتحدث عن عملية كشف انفاق حزب الله، وما قد تتطور اليه العملية من صدام. واتى كل ذلك بعد اقل من اسبوعين من اعلان نتنياهو ان هناك وضعا امنيا خطيرا يتطلب التركيز والحشد و«التضحية»، وان «المستور»، لدواع امنية، اكثر من المعلن والمكشوف.

تأتي التطورات على الجبهة اللبنانية، في الوقت الذي تعاني فيه إسرائيل، من التضييق الذي فرضته روسيا على غطرستها في اجواء سوريا، ولبنان ايضا، بعد تسببها باسقاط طائرة اليوشن الروسية ومصرع خمسة عشر ضابطا من الاستخبارات الروسية

ـ وثانيهما، حرص الجيش الإسرائيلي على بث رسائل تطمين وتهدئة للبنان، ولحزب الله تحديدا، ان النشاط الإسرائيلي سيقتصر على كشف الانفاق التي تتخطى الحدود الإسرائيلية، وسدّها بالاسمنت المسلح، بكميات محسوبة بدقة، لضمان عدم تخطي الاسمنت الإسرائيلي للحدود اللبنانية، وكأن إسرائيل حريصة على عدم المساس بسيادة لبنان على ارضه. سبحان مغيّر الاحوال!.
وصل حرص إسرائيل على عدم استفزاز حزب الله اللبناني، ان تدخّل قائد المنطقة الشمالية التي تشمل لبنان وسوريا، الجنرال يوئيل ستريك، وامر جنوده باستبدال عبوة ناسفة كبيرة في النفق الأول الذي يتخطى الحدود الإسرائيلية اربعين مترا، بعبوة صغيرة جدا، وتفجيرها، لاجبار عنصرين من حزب الله على الهرب، عندما تقدّم احدهما وحاول العبث بكاميرا داخل النفق. ذلك انه «لو تم تفجير العبوة الجدية الاولى، ولم تستبدل بعبوة الغاز الصغيرة، لأدّت الى مقتل العنصرين، ولاضطر نصرالله على الرد، ولاشتعلت الجبهة، وذلك ما سيتسبب في استمرار عملية كشف الأنفاق فترة زمية اطول بكثير، ويزيد من التكلفة في المعدات العسكرية وعدد الضحايا بأكثر مما هو مقرر لها»، حسب ما ذكره الصحافي الإسرائيلي المعروف، بن كسبيت، في جريدة «معاريف» الإسرائيلية، يوم الجمعة الماضي.
الى جانب هذا الحرص الإسرائيلي غير المسبوق على عدم سفك دماء عربية لمدنيين او رجال مقاومة، حفل الاعلام الإسرائيلي بكثير من التهويش والتهديد. وحسب بن كسبيت: «سألتُ مسؤولا عسكريا كبيرا حول احتمال ان نصل الى حرب لبنان الثالثة، (حيث الحرب الاولى 1982، والثانية 2006)، وكان جوابه بالنفي. سبب نفيه بسيط: فالحرب المقبلة حسب تعبيره، لن تكون حرب لبنان الثالثة، وانما حرب لبنان الأخيرة».
يعرفون في إسرائيل ان كل موضوع الانفاق، يندرج، في غالبيته، في خانة الحرب النفسية، وان كان له بعد عسكري ما. على ان اكثر ما تخشاه إسرائيل هو عشرات كثيرة من آلاف الصواريخ في ترسانة حزب الله، التي يغطي مداها كل الخارطة الإسرائيلية، والتي باتت اكثر دقة مما كانت عليه في «حرب لبنان الثانية» سنة 2006. وذلك الى جانب القدرات العسكرية السابقة لحزب الله، التي اكتسبت خبرات قتالية كبيرة، بفعل مشاركتها في القتال على مدى سنين في سوريا.
تأتي هذه التطورات على الجبهة اللبنانية، في الوقت الذي تعاني فيه إسرائيل، من التضييق الذي فرضته روسيا على غطرستها في اجواء سوريا، ولبنان ايضا، بعد تسببها باسقاط طائرة اليوشن الروسية ومصرع خمسة عشر ضابطا من الاستخبارات الروسية كانوا على متنها في سبتمبر/ايلول الماضي، ورفض روسيا تجاوز هذه الجريمة، رغم محاولات حثيثة ومتكررة من إسرائيل لاسترضائها.
ما زال الوضع المترتب على معالجة إسرائيل لانفاق حزب الله قابلا للإنفجار. فصور جنود الجيش اللبناني في خنادقهم واستحكاماتهم، يصوبون اسلحتهم على بعد امتار قليلة من المعدات وجنود الجيش الإسرائيلي، تجعل احتمال تسبب طلقة او قذيفة واحدة مضادة للمدرعات، في اشعال نار مواجهات عسكرية محتملة في أي لحظة.
انه جوّ ملبّد بغيوم غازات قابلة للإشتعال، وعلى جانبي متراس بالغ الضيق تقف قوات رادعة ومردوعة، في الوقت ذاته. هذا تطور بالغ الايجابية، يجيء بعد عقود كثيرة من زمن قوات إسرائيلية رادعة ومتغطرسة، مقابل قوات عربية مردوعة ومقموعة.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية