قبل أن يبدأ سباق الموسم الرمضاني بالنسبة للمسلسلات العربية الذي عادة ما ينتعش في هذا الشهر، طالعتنا الأخبار الصحافية بأن وزارة الخارجية الإسرائيلية تقدمت بمذكرة احتجاج موجهة إلى الحكومة المصرية تطالب فيها بوقف مسلسل مصري يحمل عنوان “النهاية” بحجة تنبئه بزوال دولة إسرائيل من بعد ان تُشَنُّ عليها الحرب من قبل عدد من الدول العربية، فتزيحها عن الوجود، ما يدفع اليهود الذين سبق أن هاجروا إليها من الغرب والشرق واستوطنوا فيها العودة باتجاه الأوطان التي جاءوا منها. فهل من فكرة أكثر جاذبية وإثارة لعواطف عامة العرب والمسلمين؟ وهل بغير هذه القضية تاجر العديد من حكام العرب لتبرير فشلهم وفشل أنظمتهم بإحداث تنمية لبلدانهم ولإخضاع شعوبهم تحت سياط أجهزتهم القمعية؟
وإذا كان الواقع العربي قد فشل في الحاق الهزيمة بدولة إسرائيل، رغم تضحيات الشعوب العربية، فهل لنا أن نراهن على الفن بما يتيحه من تخيلات في أن يحيل الهزيمة الواقعية إلى انتصار متخيل على الشاشة، حتى لو كان ذلك جزءا من عمليات التعمية والقفز على الوقائع؟
هذا المسلسل يستدعي وقفة نقدية لا تحتمل المجاملة لأنه ليس عملا فنيا يستهدف تسلية الجمهور فقط عبر منافسة أعمال أمريكية مدرجة ضمن خانة أفلام الخيال العلمي، إنما يحمل رسالة قد تفضي إلى إحداث خلل في وعي المتلقي، أكثر مما هي لتحقيق المتعة، وليس لدي شك في أن فكرته لاقت ترحيبا ودعما لدى مستويات عليا مرتبطة بصنع القرار السياسي، وهذا يعني أن المتخيل الفني العربي السينمائي والتلفزيوني لم يعد يملك هامش الحرية البسيط الذي كان يتحرك فيه قبل أكثر من عشرين عاما، وبات قريبا جدا من مسلسل التلاعب بمشاعر ومفاهيم بسطاء المواطنين حول مختلف القضايا التي تشغلهم، ابتدأ من أسعار الخبر والبصل وانتهاء بقضية فلسطين.
مسلسلات أم جرعات أفيون؟
الفن في الحقيقة لم يعد إلا جرعة مهدئات يُزرق بها المواطن العربي ليل نهار، عبر برامج ومسلسلات أفيونية، تمنحه أحلاما وانتصارات جميلة تنسيه واقعه البائس، وتدفعه إلى تلقي الهزائم والنكسات باستمرار من دون أن يشعر بفداحتها إلا بعد أن يفوت الأوان بشوط طويل.
الملاحظ أن معظم النتاج الفني العربي السينمائي والدرامي، وبعد فشل ثورات الربيع العربي، بات في حكم المنخرط بموضوعاته وطروحاته ومعالجاته في بطانة الخطاب الإعلامي الرسمي، ويتجلى هذا الانخراط بشكل خاص في الدول التي شهدت وقائع الربيع، وكذلك الدول التي ساهمت بتفريغ شعاراته من محتواها الاجتماعي، ودفعت بها إلى مستنقع التطرف المذهبي بغية تحويله إلى خريف.
نظرة سريعة ناحية الموضوعات التي هيمنت على النتاج الفني الدرامي ونماذجها على وجه خاص في هذا العام 2020 أظنها ستفضي بنا إلى علامات شتى تؤكد ما ذهبنا إليه، بما يشير إلى انعكاس السياسة على الدراما التلفزيونية، خاصة حول قضايا بغاية الحساسية والتعقيد، مثال على ذلك المسلسل الكويتي “أم هارون” التي جسدت شخصيتها الممثلة حياة الفهد، حيث بالغ خطابه كثيراً بتلميع موقف اليهود الوطني في الخليج العربي من الحركة الصهيونية ومنح شخصية “أم هارون” في بيئتها الاجتماعية، مساحة فضفاضة ومؤثرة ابتعدت بها مسافة بيّنة عن الواقع واقتربت كثيرا من مخيلة المؤلف. ومثال آخر ما طرحه الفنان السعودي ناصر القصبي لقضية التطبيع مع إسرائيل في الحلقة الثالثة من مسلسله لجديد “مخرج 7” الذي يعرض هذه الأيام على شاشة “ام بي سي” والمسلسل من تأليف خلف الحربي الذي يُحسب له وفي مجمل أعماله التي تعاون فيها مع القصبي جرأة التحرش بموضوعات تدخل في خانة التابوهات من الناحية الاجتماعية والدينية.
الاشكالية ليست في أن تقتحم الدراما عرين قضايا كانت وما زالت بؤرة صراع شديد بين أطراف مختلفة تستمد حضورها وقوتها من الدين أو التاريخ أو السياسة أو الأعراف، بل أن هذه المهمة هي في صلب وظيفة الدراما، إنما الاشكالية في انتهاج التزوير والتلميع لصالح طرف ضد طرف آخر، وعلى حساب تجاهل معطيات الواقع والقفز من فوقها والتحليق في مساحة من الفراغ.
في ما يتعلق بمسلسل “النهاية “على ما يبدو إن ما يدعو إليه لا يخرج عن سياق ما أشرنا إليه من إشباع المتلقي بجرعة زائدة من التسطيح الذي يؤدي للتخدير، حيث تدور أحداثه في عام 2120 في مدينة القدس، بعد أن خلت من اليهود، ويأتي ذلك عبر تصور خيالي يشطح بعيدا في فنتازيته، المسلسل من تأليف يوسف عمرو عاطف، وإخراج ياسر سامي، وتمثيل، يوسف الشريف، إلى جانب مجموعة من الممثلين المصريين منهم، ناهد السباعي، عمرو عبد الجليل وأحمد وفيق ومحمود الليثي.
نقد أم تغييب؟
من دون شك سنصفق لفريق عمل مسلسل “النهاية” خاصة المؤلف، لو أنهم استثمروا هذا الخيال الجامح في غير قضية فلسطين، لأنَّ أكثر ما فتك بهذه القضية هي الخيالات المجنحة للقادة والزعماء، ومعهم اصطفت نخب محسوبة على الثقافة وميادين الإبداع، بينما الشعب الفلسطيني الذي عانى التشرد منذ العام 1948 أحوج ما يكون إلى رؤية نقدية واقعية، يكون تأثيرها بمثل تأثير مشرط الجراح، وقسوة السياط على جسد الإنسان، حتى تنكشف العلل وتشخَّص الأسباب، فالعرب لمعالجة ما يعانون منه منذ عقود، ليسوا بحاجة إلى شطحات فنتازية تهرب بهم من حاضر شاخص منهار إلى غد سابح في علم الغيب والتخيلات، كما جاءت رؤية المسلسل، بدون اعتبار لما سيحصل من متغيرات في الواقع الإقليمي والدولي خلال المئة عام المقبلة، على ضوء ما نشهده اليوم من ارتجاجات أصابت وتصيب البشرية وأنظمتها، ويكفي ما ستفرزه جائحة كورونا من مآلات كارثية على الجميع بدون استثناء، ولن ينجو منها أي مجتمع في الكرة الأرضية.
الفنون الدرامية وتغيير المفاهيم
الاحتجاج الإسرائيلي جاء بناء على دعاية المسلسل “بروموشن ” قبل أيام من عرضه في شهر رمضان، بعد أن أطلقته الشركة التي تولت إنتاجه، ولنا أن نتساءل هنا: هل إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تشعر بالرعب حقيقة إزاء أي عمل فني يروّج لفكرة زوال دولتها حتى لو كان مبنيا على فكرة متخيّلة؟ أم أن رد فعل الإدارة الإسرائيلية يندرج في سياق المَكر والدهاء الذي عرفت به؟ فهي من الناحية الشكلية تعلن الرفض بينما في الواقع تأخذ رفضها إلى ناحية الترويج لمثل هذه الأفكار الافتراضية وغير الواقعية.
إن من يحرك بوصلة أجهزة الدعاية الإسرائيلية يدرك جيدا أهمية وخطورة الفنون والإعلام في تغيير المفاهيم لدى الناس، وتشكيل رأي عام قد يلعب دورا كبيرا في إحداث متغيرات ملموسة على أرض الواقع إذا ما استمرت عمليات الضخ المفاهيمي عبر القنوات الفنية والإعلامية، وماكنة الدعاية الإسرائيلية لعبت دورا مهما منذ الحرب العالمية الثانية وكان لها تأثير على قرارات المجتمع الدولي حتى لا تتقاطع مع ستراتيجيتها بتكريس الاحتلال والاستيطان والتهويد، وما لا يمكن الوثوق به أن هذه الماكنة الدعائية تخشى من يحاربها بأسلحة مفرداتها الخيال، وليس الحقائق والوقائع والأرقام والتواريخ والوثائق.
احترافية ملفتة للاهتمام
بناء على ذلك فإن الدعاية للمسلسل التي سبقت عرضه بأيام معدودة إضافة إلى مذكرة الاحتجاج الإسرائيلية جاءت نتائجها مبهرة لصالح الترويج للعمل، حيث ارتفعت نسبة البحث عنه على شبكات الإنترنت حسب المصادر الصحافية، بشكل فاق جميع الأعمال الدرامية الأخرى التي دخلت السباق الرمضاني، خاصة بعد أن اتضح أن المسلسل من الناحية التقنية قد توفر على قدر كبير من الاحتراف في خلق أمكنة ومعدات آلية متخيلة، مثل المركبات الطائرة، والأسلحة، إضافة إلى الأزياء والأكسسوارات الغريبة التي صممتها الفنانة إنجي علاء، فأضفت على العمل لمسة مُغرَّبَة قربته من نماذج عالمية في أسلبته، وإذا ما قورنت هذه النتائج الحرفية لفريق العمل التقني مع ما سبق أن شاهدناه في السينما الأمريكية ستكون النتيجة على درجة مهمة من الاتقان، حتى لو أنها قد استلهمتها من أعمال عالمية مشهورة، ولاشك أن ما ساعد في الوصول إلى هذه النتيجة خاصة في ما يتعلق بتصميم المركبات من الداخل والخارج، ما أتاحته برامج “الغرافيك “في حواسيب المونتاج من إمكانات لا حدود لها لتحقيق كل ما يخطر على بال المخرجين من تخيلات وأفكار كانت تبدو مستحيلة التنفيذ في النتاج العربي قبل عشرين عاما، بما أتاح لشركات الإنتاج ان تستغني عن بناء مدن متخيلة أو تصنع “موكيتات ” لمركبات فضائية. ولكن تبقى المسألة الأساسية التي تحدد أهمية النتاج الفني مرتبطة بمحتوى الخطاب، أي طبيعة الأفكار التي يتضمنها.
الخيال العلمي في النتاج العربي
تاريخيا لم تواكب السينما العربية وكذلك الإنتاج الدرامي التلفزيوني هذا النوع من الإنتاج الفني، لأن مستوى التقدم العلمي في المنطقة العربية يعد متخلفا عن الغرب بشكل كبير فلا يساعد على قبول مثل هذه الأفكار وتطبيقها في النتاج الفني، هذا إضافة إلى غياب الأجهزة والتقنيات المتقدمة التي تساهم في تجسيد المتخيل بشكل مقنع ومُبهر.
ولتوخّي الدقة فإن مسلسل “النهاية “لم يكن البداية في إنتاج دراما تُصنَّف ضمن أعمال الخيال العلمي، وإنْ كان يُعدُّ الأكثر اقناعا من حيث التقنيات التكنولوجية والخدع الفنية إذا ما قورن بما سبق إنتاجه، فقد حاول الفنانون المصريون في مطلع خمسينيات القرن الماضي اقتحام هذا النمط من الأعمال، ففي عام 1951 تم إنتاج فيلم بعنوان “السبع أفندي” من إخراج أحمد خورشيد، مثل الشخصية الرئيسية في الفيلم الممثل سعيد ابو بكر إلى جانب فريد شوقي وشادية وسراج منير، ونختلف في رأينا مع مؤرخي الفن السابع في مصر عندما صنفوه فيلما محسوبا على فئة الخيال العلمي، لأن قصة الفيلم تتحدث في إطار واقعي عن موظف بسيط يحلم باكتسابه قوة خارقة تجعله يخترق الجدران والحواجز المادية لتحقيق أحلامه بعد أن كان يعاني من تجاهل الآخرين له، فهذه البنية الحكائية البسيطة لم تخضع لمعالجة فنية تنقلها من الناحية الشكلية من بيئة واقعية إلى بيئة متخيلة غير واقعية بناء على نظريات أو طروحات علمية حتى يمكن تصنيف الفيلم ضمن خانة أفلام الخيال العلمي، بينما في مكان آخر يمكن اعتبار فيلم “رحلة إلى القمر” إنتاج 1959 من إخراج حمادة عبد الوهاب أول فيلم خيال علمي مصري، والفيلم تدور قصته حول صحافي (يمثل شخصيته اسماعيل ياسين) يذهب في مهمة صحافية إلى إحدى قواعد إطلاق الصواريخ، وعن طريق الخطأ يضغط على أزرار إطلاق الصاروخ، فَيَصِلَ مع زميله الصحافي (يمثل شخصيته رشدي اباظة) إلى سطح القمر وبرفقتهما عالم فضاء أجنبي كان مشرفا على قاعدة إطلاق الصواريخ ، وهناك يلتقون بمجموعة من البشر، نساء ورجال، سبق ان تمكن عالم فضاء آخر من ان ينقلهم إلى القمر حتى لا يصبحوا ضحايا للحرب العالمية المقبلة .
خلاصة الكلام، ما تم إنتاجه من أفلام خيال علمي في المنطقة العربية، اقتصر على مصر وحدها، وهي لا تتجاوز ستة أفلام، وكلها ذات منحى كوميدي، أي أنها للتسلية الخفيفة لا أكثر، ولم تكن تحمل في سياقها الفني مضامين علمية تحفز وعي المتلقي وتستحثه على التفكير والتأمل فيما هو أبعد مما يراه ويلمسه، وبنفس الوقت لم تكن تلك الأفلام تحمل أجندة سياسية كما في مسلسل “النهاية”.