إسلامنا الآسيوي الآخر

خلصت وأنا أعدّ لهذا المقال، بعد «الحدث الأفغاني الطالباني»، وأقرأ ما تيسّر لي بالفرنسيّة أساسا، ممّا كتب ويكتب عن «الإسلام الآسيوي»؛ إلى أنّنا كثيرا ما نغفل عن»بديهة» وهي أنّ الإسلام بدأ آسيويّا، ولعلّه اليوم يعود آسيويّا. فالغالبية العظمى من المسلمين ليسوا عربا، وإنّما هم آسيويّون. وتضمّ القارة الآن أكثر من 62 في المئة من المسلمين الذين يؤدّون فروضهم الدينيّة بالعربيّة، بدون أن تكون لغة الاستعمال اليومي عندهم. وثمّة أسئلة كثيرة مطروحة بعد «انتصار» حركة طالبان:
أي نمط من الحياة يقوم في ظل نظام طالبان اليوم؟ والحركة لم تفصح بعد عن برنامجها السياسي مفصّلا، وإنّما هي تكتفي بعبارات فضفاضة، مدارها على التعهد بالاحتكام إلى الشريعة حقوقا وواجبات وقواعد ومحظورات. والشريعة نصّ، والنصوص وبخاصّة المجازيّة؛ يمكن أن يجد فيها حتى الشيطان ضالّته. والشيطان كما يقول نيتشه «يلبد في التفاصيل»، وإن كان مواطنه المعماري لودفيغ مياس فان دار روهي (حصل على الجنسيّة الأمريكيّة) يقول في إشارة إلى تمام الأشياء أو كمالها: «إنّما في التفاصيل يستوي الله».
هل سيعيد طالبان إحياء ماضيهم عندما كانوا في السلطة، بين عامي 1996 و1200؟ وكانوا قد حظروا الألعاب والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي والتلفزيون. وألزموا النساء ارتداء البرقع، وحظروا عليهنّ العمل والدراسة، والسفر والخروج إلى الشارع بدون مرافقة من محرم. كما قاموا بتنفيذ الأحكام في الساحات العامّة (الرجم والشنق وقطع اليد والجلد…).
والأعمق هو كيف يندمج هؤلاء المسلمون في المجتمعات الحديثة، وفي الديمقراطية؟ كيف «يتعايشون» مع الازدهار الاقتصادي والمجتمعي الهائل في البلدان الآسيوية؟ بل لماذا تتعرّض بعض الأقليات المسلمة للاضطهاد في الصين أو الهند أو بورما؟ وهل يجب أن يشعر العالم بالقلق من التهديد الإرهابي في أفغانستان أو الفلبين أو في إندونيسيا؟
لنقل إذن إنّ الإسلام دين آسيوي، شأنه شأن اليهوديّة والمسيحيّة؛ ولكنّ هاتين الديانتين برحتا هذا الفضاء الذي نشأتا به ودرجتا إلى الغرب حيث مركز ثقلهما الجغرافي يمتدّ بين ساحل المحيط الأطلسي لأوروبا وضواحي أمريكا؛ والعالم الجديد كما هو معروف يضمّ يهودا ومسيحيين أكثر من أي مكان آخر.
صحيح أنّ المسلمين توجّهوا غربا في فترة الفتوحات العظمى أو مع العثمانيّين؛ سواء في أوروبا (الأندلس) أو بلاد المغرب وأفريقيا، ولكن من حيث عدد السكّان فإنّ مركز الثقل هو الشرق: شبه القارة الهندية بها ما يقرب من أربعمائة مليون مسلم (يتوزّعون بالتساوي تقريبا بين باكستان والهند وبنغلاديش)، وشرق آسيا ربما أقل بقليل من ثلاثة مئة مليون (ما يقرب من الثلثين في إندونيسيا، وبضعة عشرات الملايين في الصين، وحوالي خمسة عشر مليونا في ماليزيا، وبضعة ملايين في الفلبين وكذلك في تايلاند وبورما). وهذا العدد هو أكثر من عدد المسلمين في الفضاء الإيراني والتركي والقوقازي والعربي والأفريقي والأوروبي.
ومع ذلك، فقد جرى التهوين من شأن الإسلام الآسيوي فترة طويلة، سواء في مصر (جامعة الأزهر) أو في شبه الجزيرة العربيّة (المؤسّسة الدينيّة في مكّة) لأسباب شتّى لعلّ من أبرزها: المسافة الجغرافيّة وضعف إتقان اللغة العربيّة لغة القرآن، بالرغم من انتشار أبجديّتها؛ بل حتى الشكّ في صحّة العقيدة عند كثير من الآسيويّين. إنّما نستثني قلّة من الباحثين الغربيين عنوا بالإسلام الآسيوي، منذ بدايات القرن الماضي؛ المنتشر في شعوب لها تراث عظيم من المعتقدات والعبادات والشعائر الزرادشتيّة والهلنستيّة والكونفوشيوسيّة والمسيحيّة أيضا. وهذه مسألة لم تحظ من قبل بدراسة وافية، كما كتب هاملتون جب. وهو يذكر في هذا السياق أنّ هذه الديانات القديمة كانت لا تقاسم الإسلام مجموع تصوّراته ورؤاه، أو «الأفكار الإسلاميّة والعربيّة» بعبارته، مثل بعض شعائر الخصب القديمة عند الشعوب الزراعيّة. بل إنّ السير توماس أرنولد، وهو عالم لم يكن يخفي احترامه للإسلام، يذكر أنّ فئات من المسلمين في الهند الغربيّة، من العمّال والبنّائين والجنّانين والقصّابين، يتردّدون على مزارات الآلهة الهنديّة علنا، وقلّما يؤدّون فروضهم الدينيّة، ما عدا الختان. بل يرتدون الملابس التي يرتديها مواطنوهم الهنود من الطبقة المماثلة، والزيّ هناك ذو رمز ديني عقَدي. بل منهم من يعتقد في بعض الآلهة الهنديّة مثل «ستفاي» التي تدوّن طالع الطفل، و»مارياي» [المنيّة]، و»مهاسوبا» [ربّة الحقل]. ويذكر أنّ من المسلمين في البنغال، من يشارك الهندوس في عبادة الشمس، ويقدّم لها قرابين الخمر كما يفعلون. ويلتقي أحيانا هندوس البنغال ومسلموها في مزار واحد، ويقدّمون الدعوات لمعبود واحد؛ وإن تسمّى باسمين مختلفين، فالهندوس يسمّونه «ساتيا نارين»، ومسلمو البنغال يسمّونه الشيخ ساتيا. ولم تهدأ الأخلاط والمنازعات الكلاميّة بين العرب الأصليّين والمهاجرين وتلك الشعوب، إلاّ بعد قرون حيث «تداخلت معتقدات الفريقين ونزعاتهم تداخلا كاملا». وغنيّ عن القول التذكير بأنّ الفتوحات في آسيا الوسطى والهند وأندونيسيا وإفريقيا، أدخلت في الإسلام شعوبا لها موروثاتها الدينيّة والحضاريّة المختلفة حدّ التباين عن تلك التي كانت شائعة في مراكز الحضارة القديمة في آسيا الغربيّة ومصر.
ولكنّ الثورة التي نهض بها الإسلام، وهي الإعلاء من فكرة الله وتنزيهها، وتجريدها من عوالقها الطبيعيّة؛ لم تثمر تماما في بعض هذه البلدان في السموّ بالأفق الديني على مجال الأشياء المنظورة والأرضيّة والذاتيّة.
إذن لعلّ الأقرب إلى الحقّ أنّ طلبان حركة أصولية تبشّر بالعودة إلى ما تعتبره جذور الدين أو حقيقته؛ وهي التي تأخذ بالتفسير الحرفي للنصّ. ويمكن اعتبارهم من هذا الجانب «محافظين غلاة»، أي أنّهم ليسوا على صلتهم الوثيقة بـ»القاعدة» جهاديّين أو «إرهابيّين» بالمعنى الدقيق الحصري للكلمة. وإنّما هم «جماعة قوميّة» هدفها السيطرة على أراضيهم، وليس نشر الدعوة خارج أفغانستان.
وهم من هذا الجانب، صورة أخرى للإسلام الآسيوي؛ فهم يختلفون عن «القاعدة» و»تنظيم الدولة الإسلاميّة»، أو عن «الإسلام الجهادي» الذي تتمثّله مقالات سيّد قطب في أنّ طبيعة الإسلام لا يدركها: «إلاّ من يدرك معها حتميّة الانطلاق للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان… من يدرك طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه لا يتصوّره قابعا داخل حدود إقليميّة لا يحرّكه إلاّ خوف الاعتداء»؛ فـ»الجهاد هو الشأن الدائم لا الحالة العارضة. وهو ضرورة للدعوة سواء أكان الوطن الإسلامي آمنا أم مهدّدا» ولا مسوّغ لذلك في تقديره سوى أنّ المعركة بين المؤمنين (دار الإسلام) والمجتمعات الجاهليّة (دار الحرب بما فيها وطنه مصر) «هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق». وهذه ليست صورة طالبان «الإسلاميّة القوميّة» التي تختلف أيضا عن نمط آخر من الإسلام الآسيوي هو «الإسلام الصوفي» المتسامح «المنتشر» في الهند أو جاوة. وحتى وقت قريب، كان ارتداء الحجاب غير معروف تقريبًا في شرق آسيا، والنساء الجاويات يخرجن بحرّية، ويمارسن جميع المهن، بما في ذلك الأنشطة التجاريّة دون مشاركة الزوج أو تحكّمه فيهنّ. وصحيح أن الكحول والمخدّرات وأشكال الجنس «غير السويّة» لم تكن شائعة في أكثر هذه المناطق من آسيا التي انتشر فيها الإسلام.
لذلك يمكن أن نعتبر الخطاب حول الإسلام الآسيوي غير واضح المعالم، وبعضه قد لا يكون أكثر من طلاء أو مظهر برّاق لإسلام متسامح مثل الإسلام الصوفي؛ فهو «هشّ» بالرغم من أنّ اجتذاب الناس إلى الإسلام كان حتى عهد غير بعيد يتمّ على أيدي أصحاب الطرق الصوفيّة أساسا. بل هو إسلام لا يرى فيه المسلمون الذين يرجّحون الاتّجاه الكلامي العقلي سوى صدى للخرافات أو لنوع من «الإحيائيّة» ذات الجذور الهندوسيّة كما هو الشأن في الهند وسومطرة وجاوة؛ أو الأسطوريّ الذي يفلت بحكم قاعه «الحلميّ الطوباويّ» من سطوة التاريخ، ويمتلك قدرة على أن يبني لنفسه حضورا كلّيّا، أو زمنا خاصّا يندّ عن أيّ ضبط أو قياس. وكأنّ الصراع بين الإسلام الراديكالي والإسلام الصوفي صورة باطنة من صراع بين «الإله الذكر» و»الإله الأمّ»؛ أو صورة من استعارة أبويّة واستعارة أموميّة. والاستعارة بنية تداخل بالمطابقة، تمّحي فيها الحدود والماهيات والفواصل بين الأشياء؛ فلا غرابة أن تحلّ «الامّ» في «الأب»، وأن يكون هذا تلك؛ وأن تمتزج في الإسلام الآسيوي الصوفي المعتقدات الإسلاميّة، بالمعتقدات التي شاعت في هذه البيئة قبل الإسلام؛ بل بالسحر والشعوذة، وإن تزيّت بلَبوس إسلامي في الظاهر.
لقد قيل الكثير بعد 11 سبتمبر من أنه يحسن بالغربيّين عدم الخلط بين الإسلام والحركة الإسلامية، والأغلبية الساحقة المتسامحة من المسلمين والأقلّية من الإسلاميّين المتشدّدين أو الجهاديّين على اختلافهم. وفي هذا مقدار من الصواب والخطأ أو سوء التقدير. ومع أن لا أحد يرجم بالغيب، فإنّ مستقبل الإسلام السياسي قد يكون في «الإسلام الآسيوي» المتنوّع.
*كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صديق الحقيقة:

    (((( وألزموا النساء ارتداء البرقع ))).البرقع في افغانستان لا علاقة له بطالبان.بل هو زيّ وطني قديم.مثل زيّ النساء الخليجيات تراثي.

إشترك في قائمتنا البريدية