كان محسن الموسوي الأكاديمي العراقي في جامعة كولومبيا الأمريكية قد أطلق مشروعا كبيرا لدراسة كتابات العامة وثقافتهم في القرون الوسيطة الإسلامية. وقد برز هذا الأمر بشكل واضح من خلال كتابه «جمهورية الآداب» الذي حاول فيه تتبع كتابات العامة في المدينة العربية. يومها وجد الموسوي أنه مع سيطرة المماليك على بعض الحواضر العربية مثل دمشق والقاهرة، كان مركز الشعر يتحول بعيدا عن بلاط الحكم، الذي فضل اللغة التركية كلغة بين النخب، ما ساهم في نزول الشعر نحو الشارع، وأتاح فرصة لأصحاب الحرف والمهن والتجار للعب أدوار فاعلة في الأدب والكتابة عن المدينة.
وبعد هذا المشروع سيخبرنا الموسوي في كتاب آخر له حول الإسلام وألف ليلة وليلة، أن الليالي العربية لم تكتب في القرون الإسلامية الأولى، كما هو شائع، بل في القرون الوسيطة الإسلامية، وبالأخص في فترة المماليك ولاحقا العثمانيين، على يد كتاب وحكواتية سوريين ومصريين من أمثال حنا دياب الحلبي، لا تنقل لنا فحسب صورا من المخيال الشعبي العامي آنذاك وعلاقته بالسلطة، أو منظومته الفكرية، وإنما تمثل أيضا في بعض جوانبها صورة الإسلام العامي في المدينة العربية الوسيطة. ومع هذا الطرح، أصبح بوسع القراء والباحثين التعامل مع نصوص ألف ليلة وليلة بوصفها نصوصا تعكس إسلام المدينة في أحد جوانبها، ما مثّل قراءة جديدة أيضاً، خاصة أن المثقف العربي بشقيه العلماني/ الإسلامي، لطالما تعامل مع الليالي العربية، إما بوصفها تعكس حالة الشبقية التي عاشتها المدينة العربية، أو تمثل جزءا من قصص الخيال والأسطورة ليس إلا، بينما كانت هذه الليالي تذهب مع الموسوي إلى عالم من استعادة الخيال في المدينة، بوصفها نصوصا تعكس الثقافة العامة ومعتقداتها في زمن كتاباتها.
الرواية وإسلام العامة
مؤخرا وفي السياق ذاته المهتم بترجمة أعمال الموسوي للعربية، قام مشروع كلمة بترجمة كتابه «إسلام الشارع: الدين في الأدب العربي الحديث» ترجمة هاجر إدريس. يهدف الكتاب إلى دراسة الإسلام كما حاولت الرواية العربية رسمه في القرن العشرين. إذ تبدو الرواية في إحدى صورها وكأنها قد ورثت عالم الحكايا والقصص والليالي العربية، الذي هيمن على مخيلة العامة في المدن العربية ما قبل الحديثة. مع ذلك يعتقد الموسوي أن الرواية وعلى الرغم من انتشارها، فإن بدايتها الأولى ارتبطت بالنخب المثقفة والوسطى في العالم العربي، ولذلك فهي تعكس مزاج شريحة من النخب المتعلمة، التي بدت تبحث دون جدوى في ما دعاه هشام شرابي بـ»تخفيف قبضة الإسلام على المجتمع العربي» وحاولت تقليده من خلال طرح تصور آخر عن الدين واليومي، وأيضا من خلال رسم صورة الإسلام العامي في رواياتها، ولذلك فإن الرواية العربية، وفقا للموسوي، تصلح لدراسة إسلام العامة، أو بالأحرى كيف صور الروائيون إسلام العامة، خاصة أن الأدب بدا قادرا في القرن العشرين على التعبير عن الواقع بطريقة أعمق من غيرها.
الأمة والدين بدايات القرن العشرين
حاول مثقف النهضة، الحامل لشيء من التنوير، العمل على إزاحة التراث بوصفه مصدر قلق وخوف، وأصبحت كل المفاهيم المتعلقة بالعائلة والمجموعة والفضاء التمثيلي (الأضرحة مثلا) مدعاة للريبة والحذر. وقد ارتكزت كل الدول العربية في سياساتها التعليمية على مخطط يهدف إلى إرساء تعليم منفصل عن الكتاتيب والمدارس التقليدية وترسيخها. وهو ما جسده طه حسين في «الأيام» إذ يروي رحيلا عن الديار أكثر منه رجوعا إليها. فهي رحلة هرب من التعليم التقليدي، نحو تعليم علماني مرورا بتكوين استشراقي في جامعة القاهرة قبل الوصول إلى باريس مركز الحضارة، ولذلك نرى في هذه الفترة توجها كبيرا من المثقفين العرب للاهتمام بالأدب والتاريخ والعلوم الصحيحة، بينما أهملوا القرآن وعلوم الشريعة. وهذا ما نلمسه في كتابات محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، ولاحقا مع عبد الرحمن الشرقاوي، التي جاءت ردا على الطريقة التي صور بها بعض المستشرقين النبي محمد، مع ذلك فهي سوقت بالمقابل رؤية مغايرة، لا يمكن وضعها في خانة النتاج الديني. ففي عملية تطويعها للتعليم، لجأت الدولة الوطنية إلى فرض فهم مجزأ للتاريخ لا يهتم إلا لماما ببعده الديني. فكانت كتابات النخبة عن المواضيع الإسلامية جزءا من استراتيجية التقنين، التي تهدف إلى جعل الإسلام مجرد هوية ثقافية. وقد استطاع هذا السرد التاريخي أن يصل إلى جمهور واسع، متفوقا في ذلك على الحوليات التاريخية. فعلى الصعيد الفني تمكنت هذه الكتابة من مزج التسلسل بالتحليل، والسرد الخطي بالنوادر، وكذلك الدراما بالمرجعية الدينية، أي أنها جسدت الموضوع، كي يصبح في متناول القارئ، واعتمدت في ذلك على الشكل العلماني للروايات الحديثة، باتباعها نسقا متسلسلا، يرتكز على المنطق والسبب والتأثير، وعلى المشاغل العلمانية في وصفها للشخصيات والتأثير، وكذلك على حبكة درامية.
وقد غدا الموقف المعارض للدين أكثر حدة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ اتخذت الرواية العربية، خاصة في أوساط النخبة الحضرية، نموذجا أوروبيا طمست فيه البطل والرب في آن. كما عمدت بعض الروايات إلى تقديم صورة الانتهازي والكاذب بالدين في حديثها عن رجال الدين، وهو ما عبرت عنه كما يرى الموسوي رواية «عرس الزين» للطيب صالح، الذي صور الإمام رجلا انتهازيا.
ستشهد هذه الصورة عن الديني تراجعا بعد حزيران/يونيو 1967 وإفلاس خطاب الدولة الوطنية، إذ أدار عدد من النصوص الروائية ظهره لروايات الطبقة الوسطى، واهتمت هذه النصوص بالمهمشين ووضعت خطابهم جنبا الى جنب مع المنظرين العلمانيين، وهو ما بدا في رواية «طواحين بيروت» 1972 لتوفيق يوسف عواد، التي تتحدث عن فتاة من جنوب لبنان، هُجرت من قريتها، وعانت من الإجراءات العنصرية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي. لتجد نفسها وسط المثقفين الذين تأثرت بميولهم العلمانية وبلاغتهم الأيديولوجية، لكنها سرعان ما تقرر رفض هذه التجربة، كونها تجربة انهمكت بالقشور، وعجزت عن مواجهة القضايا العميقة، ما أنذر بنشأة خطاب آخر، تجلى في قرار الطالبة تسليم مذكراتها لزميلها وحبيبها هاني، وتصريحها بموت ذاتها القديمة، التي لن تعيش إلا في تلك المذكرات، والبحث عن مخلص آخر (ديني) وهو ما بدا في سبعينيات وثمانينيات بيروت، من خلال موسى الصدر، ولاحقا الجماعات الشيعية السياسية.
شيوخ وجهاديون
يقف الموسوي في سياق تتبعه لصور الإسلام وممثليه في المدينة العربية المعاصرة، عند رواية «ألف ليلة وليلة» لنجيب محفوظ، المنشورة سنة 1982. حاول محفوظ في هذه الرواية التركيز في المقام الأول على التقوى، بوصفها فكرة أساسية عادة ما يقع إدراجها للتذكير بضعف الإنسان وهشاشته أمام الموت، وقد جسد هذه الأفكار في شخصية الشيخ البلخي الذي جعل منه أنموذجا لرمزية هذه القوى الروحية الخارقة، والذي اختزل في خطابه ما يتردد على لسان العامة في الشارع العربي الإسلامي حول القوة الإلهية التي لا يستطيع أي أحد سبر أغوارها. كما برز التصوف في الرواية قوة ناعمة تغلغلت في المجتمع عن طريق المريدين، تعري الفساد وتقترح بطرق غير مباشرة سبل كبحه، أو الحد منه، حتى إن لم تحرض على الثورة، فهي تدفع إلى حالة من الاستياء.
وفي رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» يظهر الإسلام أيضا بوصفه إطارا مرجعيا في أكثر المحادثات والنقاشات واللقاءات. فلا يفلت نقاش أو لقاء من حضوره المهيمن. كما حاولت الرواية تسليط الضوء على أكثر من إسلام؛ الأول ممثلاً في الإسلام الرسمي الذي حاولت السلطة تجييره لصالحها، أو تكوينه من خلال السماح للشخصيات النسائية بالصدح بأصواتهن ضد إساءة استخدام القرآن، أو تعمد المغالطة في تفسيره. في المقابل يظهر إسلام الشارع من خلال الشاب طه الشاذلي الملتحق بصفوف الحركة الطلابية الإسلامية. وهنا تعود لغة القرآن لتتمتع بقوة رمزية فعالة، إذ يتنافس مستعملوها في التلاعب بها إلى أقصى حد ممكن، لتصبح بذلك ميدان صراع بين منصات الدولة وتابعيها الدينيين من جهة، والحركات الدينية من جهة أخرى. كان ارتماء الشاب طه (أحد أبطال الرواية) بين أحضان الحركة الإسلامية بكل ما أوتي من شغف وإيمان نتيجة مباشرة لتحول طموحه إلى خيبة أمل. وهو ما يوحي بأن تأجج الشعور الديني جاء كردة فعل على هزيمة 1967 وعلى فشل الناصرية في تأسيس دولة وطنية فاعلة ذات خطاب واضح عوض خطابها الاستبدادي. وبالتالي نرى الأسواني يتفق مع العديد من الكتاب الذين حاولوا تفسير التطرف الإسلامي بوصفه شكلا آخر من الأيديولوجيا، يروج لها العلماء والمرشدون والمنظرون ويدعمونها، مقابل الإسلام الرسمي وعنف السلطة، وهو ما يتقاطع أيضا مع فكرة هنري لوفيفر من أن «عنف السلطة يواجهه عنف التخريب» ما يجعل إسلام الشارع في الشرق الأوسط مكانا للصراع المستمر إلى سنوات مقبلة طويلة.
كاتب سوري