مع منتصف تسعينيات القرن الفائت، بدأ عددٌ من الباحثين في عالم الإسلام اليومي والإسلام السياسي، يلاحظ ظهورَ تطورٍ جديد على مستوى الحقل الديني، تمثّل في ازدياد حالة التسلّف داخل الشارع، وهو تسلّف لم ينجم عن نشاط للجماعات السلفية، بقدر ما نجم عن رؤية جديدة تتعلّق بما دعاه اوليفيه روا بـ«فشل الإسلام السياسي»، إضافة إلى ظهور مساحات بديلة لتلقّي المعرفة الدينية عوضاً عن الشبكات التقليدية السابقة، ما خلق حالة عصامية جديدة حيال التعامل مع النصوص الدينية، وبالتالي نجم عنه تحوّل في الحقل الديني، وطبيعة اللاعبين الموجودين فيه؛ إذ لم تعد الدولة أو مؤسسات الإسلام الرسمي هي الفاعلة والمؤثرة وحسب. وستتطور هذه الحالة مع قدوم الألفية الجديدة، إذ ستتزايد موجات هذا التسلّف، ليس في العالم الإسلامي وحسب، بل في بقية العوالم والأديان، وهذا ما سيدفع أوليفيه روا إلى وصف الفترة الجديدة بزمن الجهل المقدس أو زمن دين بلا ثقافة؛ ففي هذا الزمن يغيب اللاعبون التقليديون أو مصادر المعرفة التقليدية بالدين، لصالح مصادر وقنوات جديدة، ولصالح أسلوب آخر في التعاطي مع النصوص، أو حتى الاستعانة بها، خاصة في الأوساط الشابة، التي باتت تعبِّر عن نزعة فردانية أوسع في حياتها اليومية، ما أضعف من علاقتها بالشبكات الدينية التقليدية.
كما أتاحت لهم وسائلُ التواصل الجديدة العبورَ إلى أسواق دينية جديدة، ليختاروا منها ما يشاؤون ويعرضون عما لا يرونه يتناسب مع ثقافتهم الشبابية، ما سيؤدي إلى خلق نوع جديدة من الثقافة الدينية، التي لا تربة لها ولا تاريخ، وهذا ما يراه روا شكلاً جديداً من الأصولية الجديدة. ورغم محاولة بعض الدراسات التقليل من سلبية رؤية روا، إلا أن النتائج والخريطة التي رسمها لنا، على صعيد أشكال التديّن الجديدة لدى الشباب، شكّلت مدخلاً جديداً لفهم ظاهرة التديّن اليوم. ولعل من بين الكتب الأخيرة التي قدّمت مقاربة مماثلة على صعيد فهم حالة التديّن لدى الشباب في المدن العربية، كتاب السوسيولوجية التونسية آمال موسى «الشباب التونسي والتدين في الحياة اليومية»، والكتاب أساساً هو أطروحة للدكتوراه، عملت عليها المؤلفة قبل انفجار حدث بوعزيزي في تونس.
حاولت المؤلفة الاشتغال على فئة الشباب من خلال مجالين مكانيين متبانيين اجتماعياً واقتصادياً، ولهما مكانة خاصة في التوزيع السكاني لتونس الكبرى. وهما معتمدية حي التضامن التابعة لولاية أريانة، التي تتميز بكثافة سكانية عالية، وبغلبة الطابع الشعبي، مقابل معتمدية المنزه التابعة لولاية تونس التي يعرف سكانها مستوى عاليا من الحياة.
تكوّنت العينة، التي اعتمدت عليها المؤلفة، من مئتي شاب، تتوافر فيهم مختلف الخصائص. كما لم تكتف بملاحظة الشباب في الشارع وبالاستبيانات، بل حاولت المؤلفة أيضاً اعتماد تقنية الملاحظة بالمشاركة، من خلال خوض تجربة الصلاة داخل الجامع، عبر القيام بصلاة التراويح، فضلاً عن مشاركة ثلة من الفتيات في مشاهدة برنامج ديني، كي تضمن تركيزاً ودقة أكبر في جمع البيانات.
تعود بنا المؤلفة، قبل الخوض في نتائج دراستها الميدانية، إلى فترة السبعينيات في تونس، التي شهدت ولادة أسلوب آخر من أنماط التديّن جاء به الإسلام السياسي إلى البلاد، فعندما نشأت الحركة الإسلامية كان الشباب فيها فاقداً للتصور الزيتوني، وميالاً أكثر للمرجعية المشرقية وبالأخص للأفكار الوهابية، ما أدّى إلى فجوة مع بقايا مشايخ الزيتونة. فالظاهر أن سياسات العلمنة التي اتبعتها الدولة حيال الدين، جعلت الشباب التونسي في الستينيات والسبعينيات يتفاعل مع أطروحات ضعيفة الصلة بقوانين المرجعية التونسية الزيتونية للبلاد التونسية، وهي نقطة مهمة تُبرِزُ دور غياب التأطير الديني، في تسهيل عملية تسلّل أفكارٍ دينية، تستند إلى نظرة مغايرة في فهم الدين وتحديد وظائفه.
تلحظ المؤلفة حالة من التسامح لدى الشباب على مستوى حرية المعتقد، بيد أن ما يلفت نظرها عدم استمرار ذلك في مسألة تقويمهم للعمليات الجهادية، إذ أبرزت الدراسة الميدانية أن قرابة نصف عينة الشباب المستجوب ترى أن العمليات الجهادية ضرورة دينية.
صلاة ودعاة
وبالانتقال إلى نتائجها الميدانية، تبيّن المؤلفة على صعيد أداء الشباب للصلاة، ازدياد نسبة ممارسة طقوس الصلاة بين الطلاب وأصحاب الشهادات العليا، وهذا ما تفسّره بكونه ربما يعكس إحساساً بالخوف والقلق وعدم الأمان. فالصلاة تمنح شباب المدينة طمأنينة أكثر وإحساساً بالقوة، وربما يعود ذلك إلى أن مظاهر العلمنة في المدينة بدت أكثر بروزاً، وإلى أن شيوع منطق العقلانية وشروطها التي تحتكم إلى المادي والعقلاني على حساب الروحي والوجداني، أدى إلى ما يسميه دوركهايم «الأنوميا» في الرأسمال النفسي لشباب المدينة، وهي «أنوميا» يحاول الفاعلون الاجتماعيون معالجتها من خلال معيش ديني، يولي المردود النفسي للشعائر الدينية والبعد الطقوسي في المعيش الديني، أهمية، فتصبح الصلاة مصدراً للطمأنينة والقوة ضد القلق، في مجال تضعف فيه الروابط والقرابة، ويتعاظم فيه اللاتجانس والفردنة.
أما في ما يتعلق بالكتب الدينية المفضّلة لدى شباب العينة، نجد أن كتب الأنبياء والرسل وكتب الأدعية، من الكتب الأكثر تفضيلاً، بينما تأتي كتب الفكر في الترتيب الثالث، والحال أن شباب العينة ككل هم خريجو المؤسسة التعليمية التونسية، التي مثّلت أداة أساسية من أجل تحديث العقول، وتبجيل قيم العقلانية والواقعية والدنيوية. إذ لا تعكس نوعيةُ ومضامين الكتب الدينية المؤطّرة لعلاقة الشباب اليومية بالدين، أثراً مهماً للمعرفة الدينية العالمية، بقدر ما تبدي ولاءها الأكبر للمعرفة الدينية الشعبية.
وإذ أن هجرة غالبية شباب العينة في اتجاه القنوات الدينية الخليجية، إنما تعكس موقفاً سلبياً من الخطاب الديني المحلي، مضامين واعلاماً، فاللجوء إلى إعلام ديني من خارج حدود جغرافية الإعلام التونسي، لا يحمل تأثراً بعالم الاتصالات الحديثة وحسب، وإنما يعكس مدلولاً واضحاً مفاده أن الخطاب الديني الرسمي، والبرامج الدينية التي تُبثُّ في الإعلام المحلي، محددا التأثير ولا يُشبِعان حاجة الشباب دينياً.
في السياق ذاته، ترى المؤلفة أن الإقصاء الذي مارسته دولة الاستقلال الحديثة آنذاك، بالإضافة إلى توجهات النخبة الفكرية التي قاربت المسألة الإسلامية سواء من منظور قانوني أو حضاري أو فلسفي أو سوسيولوجي، لم تتمكن من التواصل التفاعلي مع الشباب وتطلعاته الدينية، ذلك أن 38 شاباً من مجموع شباب العينة، ممن أجابوا بأنهم يقرؤون كتباً لعلماء الدين ومفكريه، قالوا إنهم يقرؤون لمحمد سيد طنطاوي وابن رشد ومحمد عبده والطاهر بن عاشور والغزالي وابن تيمية ومحمد متولي الشعراوي وعمرو خالد، ولعل أول نقطة تلفت النظر أن الاسم الوحيد الذي يمثّل البيئة العلمية الدينية التونسية، هو الطاهر بن عاشور، مقابل هيمنة واضحة للبيئة المعرفية الدينية المشرقية وتحديداً مصر، كما أن هناك اسماء تحظى باهتمام اعلامي حوّلها إلى نجوم الخطاب الديني الراهن، من ذلك أن الشيخ الطنطاوي أو عمرو خالد ليست لهما مؤلفات بقدر ما لهما فتاوى ومواقف دينية، أثارت جدلاً وانتقادات جعلتهما يسجلان حضوراً إعلامياً قوياً.
دين بلا ذاكرة
أظهرت بيانات البحث الميداني أن غالبية شباب العينة، لا يزورون مقامات الأولياء الصالحين وهو نفي يعني في المقام الأول أن 163 شاباً من مجموع 200 شاب، يغيب عن ممارساتهم اليومية للدين طقس زيارة الأولياء، بوصفه أهم أشكال التديّن الشعبي وطقوسه وعلاماته، ما يعني انحسار ممارسة أبرز طقوس التديّن الشعبي لدى فئة الشباب، وهذا يشي بضعف هيمنة الفكر العائلي والذاكرة الدينية التقليدية، الشيء الذي أدّى بدوره إلى تعطّل الوظيفة الاجتماعية لطقس زيارة أضرحة الأولياء في صفوف أغلبية شباب العينة.
على صعيد الرؤية للجهاد
تلحظ المؤلفة حالة من التسامح لدى الشباب على مستوى حرية المعتقد، بيد أن ما يلفت نظرها عدم استمرار ذلك في مسألة تقويمهم للعمليات الجهادية، إذ أبرزت الدراسة الميدانية أن قرابة نصف عينة الشباب المستجوب ترى أن العمليات الجهادية ضرورة دينية. كما تكشف إجاباتهم عن وجود نوع من الانشقاق مع القراءة الرسمية للجهادية، التي يبدو أن الدولة قد أخفقت في استزراعها في تصورات أغلبية الشباب وتوطينها في البنية الذهنية والمخيالية لمجتمع الشباب، ومن ثم كأننا أمام ما عبّر عنه الأنثروبولوجي بيير كلاستر بأنموذج المجتمع ضد الدولة.
فالعمليات الجهادية وما تنطوي عليه من حالة سوسيولوجية، تقودنا إلى الإقرار بأن الموقف الإيجابي لدى نصف شباب العينة من العمليات الجهادية، بوصفه خياراً يتبنّى العنف، واعتبارها ضرورة دينية، إنما لا يخلو من موقف سياسي احتجاجي ضد الدولة والنخب السياسية الحاكمة، وذلك من منطلق أن العنف ظاهرة سياسية بامتياز، ويمكن تفسير كل أشكاله بصفتها سياسية بالقوة، مما قد يفسر هذا الانشقاق والتباس المواقف برد فعل دفاعي من طبيعة دينية، وهي نتيجة قد تتوافق مع ما أصبحت تعرفه الممارسة الشبابية للدين من تغييرات اتّخذت لدى البعض اتجاهاً راديكالياً، تمثّل في ارتداء النقاب، ومحاولة فرضه في الفضاء العمومي وفي مؤسسات التعليم العالي.
٭ كاتب من سوريا
هناك علماء ملحدون رجعوا للتدين بعد أن عاشوا حياة مادية فارغة! الحمد لله على نعمة الإسلام الذي يصفي القلوب والعقول!! ولا حول ولا قوة الا بالله
صراحة سيدي الكريم لا علاقة الجهاد بالمعارضة السياسية بين مسلمين، أنتم في سوريا إنشطرتم إلي ميليشيات متقاتلة كل واحدة تدعي بأنها تجاهد بإسم الدين… شباب هذا الزمان و أنا أتعامل معه يوميا لديه خلط خطير بين الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر باللتي هي أحسن و بين تنفيس عن حالة رفض و سخط شديدين ناحية إفلاس أنظمة سياسية …فالمشكلة لدي شبابنا نفسية بالأساس…