في غفلةٍ من الزمن، وفي عتمة الليل، كان يغفو بعد عناء طويل، بيد أنه لم يكن يعلم أنها غفوته الأخيرة، وأن يد الغدر ستطاله للمرة الرابعة، رحل الفارس المؤمن ولم يترجل عن صهوة المقاومة، رحل إلى بارئه مُسلّماً الرسالة التي عُهدت إليه مصونةً غير منقوصة الشرف والعفة والكرامة. يا للرجل! يا للقائد! يا للإنسان! الكل بكاه صغيراً وكبيراً، رئيساً ومرؤوساً، حتى السماء غضبت فأخفت شمس أغسطس اللّهاب لتسمح لنسائم عليلةٍ تمسح جباه الوجوه من جموع الحشود الغفيرة التي أمّت من كل حدب وصوب لتظفر بالمشاركة بالجنازة المهيبة التي امتدت إلى مسافةٍ طويلة، جاءت الآلاف وفاءً لهذا الرجل الذي ملأ الأسماع والأرجاء والأصقاع، وتحدثت المواقف والأحداث والتواريخ عنه، حتى غدا حاضراً في كل رامٍ، يحنو على هذا ويضم ذاك ويواسي تلك الأم الثكلى، ويبتسم مداعباً تلك الطفلة الجريحة. لم يعرف وجهه كدراً ولا عبوساً، بل حزماً وقوةً ورباطة جأشٍ وعزيمة وصلابة الرجال.
كان يبتسم في وجه التحديات لا تهزه النائبات؛ صبره يفوق الجبال في المصائب والفواجع، هكذا بدا عندما تلقى نبأ استشهاد أبنائه الثلاثة وأحفاده، وكان قلبه واسعاً يضخ الحياة لمن أصابه اليأس والإحباط، كان ذا قلبٍ صافٍ لا يحمل غلاً لأحد، يُحبُّ الجميع حتى أولئك الذين اختلف معهم من إخوة ورفاق الدرب والقضية.
كان شامخاً كالنسر في مواجهة الأعداء، صلداً كالفولاذ في مواقفه الوطنية، كانت قصيدته «لا تصالح» وقالها أمام القاصي والداني «لن نعترف بإسرائيل» ولم يلوّث يده بمصافحة قتلة الأطفال والنساء، ولم يعانق رموز التدمير والإرهاب والإبادة، ولم يُقبّل يوماً جباه مُدنّسي الأقصى وسارقي الليمون والزيتون والزعتر وبحر غزة.
لم يمتشق البندقية؛ لكنه امتشق كل بنادق المقاومة. وقف نداً لذل وعار اتفاقات أوسلو، وحاور موقّعيها من أبناء جلدتنا فكان محاوراً مقنعاً، وليس مزاوداً، وقدّم البدائل والحلول؛ لأنه كان يؤمن بقدرة وصلابة وصمود شعبه وبسالة مقاومته. لم يكن يرى المستحيل مستحيلاً، إنما كان يرى المستقبل الواعد لشعبه بالعودة والحرية وتقرير المصير. كان الشهيد حاداً كالسيف في المواقف المفصلية ودبلوماسياً ناعماً لتحقيق مصالح شعبه الجريح المنكوب؛ فأحرج الأعداء والوسطاء وأخرجهم من عباءة الكذب والخداع والمناورة فأصبحوا صغاراً مهزومين أمام الجميع. لم يتراجع عن دم شعبه الذي روى كل البطاح عزةً وكرامة، لم يساوم على دم الشهيد وجرح الجريح ولا على معاناة النازح واللاجئ في خيم اللجوء والنزوح. كان عصياً على الانكسار والهزيمة، استمد قوته وصلابته من شعبه ومن مشورة رفاق وأخوة المشوار معه؛ فكان ديمقراطياً بامتياز يبحث عن الرأي الأكثر صواباً.
إسماعيل هنية اللاجئ في مخيم الشاطئ الأبي الذي شهد طفولته وترعرع فيه بعدما لجأ مع والديه من قرية الجورة قضاء عسقلان، لقد أحب المخيم وأحبه، فحمله معه بمشوار النضال ورحلة الحياة
كان حقاً منفتحاً على الجميع، فكان رجل الوحدة الوطنية وعمل جاهداً على تحقيقها.وكان حاضراً في كل الساحات والمناسبات؛ فلم يدّخر جهداً لحشد دعمٍ من هنا وهناك نصرةً لفلسطين الوطن والتاريخ، لفلسطين الهدف الأسمى، وعنوان حياته الوحيد الذي يجري في عروقه؛ فلسطين التي بقيت حتى آخر ثانية في حياته قبلته وبوصلته حيثما ذهب شرقاً أو غرباً. حتى باستشهاده أجج مشاعر الشعوب التي تجمهرت لوداعه، أو لإقامة صلاة الغائب على روحه في معظم العواصم، فهبت لتأكيد دعمها والتفافها حول المقاومة. وكأنه بذلك استبق يوم الثالث من أغسطس الذي دعا إليه للتضامن مع أهل غزة والأسرى ونصرةً القضية. كان استشهاده مصدر إلهام لشعوب الأمة وأحرار العالم، فوحد كلمتهم ومواقفهم، وما مشاركة كل الفصائل والحركات من كل الأطياف في جنازته، إلا تعبير عن إعادة الّلحمة ونبذ الانقسام؛ ما أوقع قادة الكيان بمأزقٍ، حيث كانوا يراهنون على انكسار المقاومة، وإحباط الشعوب وتثبيط همّتها، وتفتيت وحدتنا الوطنية.
كان قائداً استراتيجياً حدد معسكر الأعداء والأصدقاء، وحدد نقاط القوة والضعف ووضع مع إخوته في المقاومة خطط المواجهة معتمدين على إمكاناتهم الذاتية، ونسّق مع محور المقاومة سبل الدعم والإسناد. لم يُفاجأ بخذلان البعض وصمتهم، لكنه حتماً فوجئ بحجم هذا الخذلان وصمت العالم المدوّي وضعف هيئاته ومنظماته الدولية. كان منذ بداياته رجل إصلاح وتغيير، عرفته منابر الجامعة منذ كان طالباً وقبل أن يصبح عميداً لها. وعرفته أيضاً مدارس الأونروا التي درس فيها وأصبح في ما بعد معلماً فيها ومربياً معطاء. كان عالماً فقيهاً عرفته كليات غزة، وخطيباً حكيماً، وتالياً للقرآن في مساجد غزة العزة.
إنه اللاجئ في مخيم الشاطئ الأبي الذي شهد طفولته وترعرع فيه بعدما لجأ مع والديه من قرية الجورة قضاء عسقلان، التي غنى لها ذات مرة «لتعودي يا دار» لقد أحب المخيم وأحبه، فحمله معه بمشوار النضال ورحلة الحياة، فبقي فيه مع عائلته حتى دمرته طائرات الاحتلال ظناً منها أن تنزع منه رمزية المخيم الشاهد على نكبتنا. يا لمشيئة القدر أصبح الاثنان شهيدين في كفنين متباعدين. لقد ميز القائد الراحل بين خصومة الوطن وخصومة الخصوم؛ فكان الوطن عزيزاً فوق كل الخلافات والانقسامات، وخاصم الخصوم عليه ولأجله. يا لفقدنا ويا لخسارتنا، رحل أبو العبد تاركاً لنا نموذجاً فريداً: القائد والعالم والفقيه والمربي والمحاور والدبلوماسي. رحل أبو العبد الإنسان الخلوق بشوش الوجه والمشرق الجباه والوجنتين. رحل أبو العبد المتواضع، الأخ لكل أخ، والأب لكل ابن وابنة، كان صدراً حنوناً لكل من التقى. رحل أبو العبد والد الشهداء وجدُّ الأحفاد الشهداء. رحل الوفي المخلص المتفاني في أداء المهمة والأمانة. غادرتنا وتركت مكانك شاغراً، إلى هناك حيث الملائكة في السماء. وداعاً يا هنية الأمة.. يا هنية فلسطين. أحببناك ولم نعرفك إلا شهيداً.
كاتب فلسطيني