لقد زحزحت التحوّلات الثقافية المعولمة – السرديات الكبرى بالسرديات الصغرى، وتحوّل المنتج الثقافي إلى سلعة معولمة يتحكم فيها الرأسمال الطفيلي، حتى صارت للثقافة سوق تبادلية حرّة، وفق مبدأ المنفعة التجارية.
وفي زمن الفوضى واللامبالاة والإرث السياسي الفاسد الذي ورثته النخبة، تدحرجت الثقافة إلى الحضيض، وهبطت قيمة المثقف، ولم يعد له أي قيمة اجتماعية موازية لـ(الثقافة).
إذن هل انتهى زمن المثقف الذي يحلم بالتنوير واقعا؟
لعل من أخطر النتائج الناجمة عن انهيار البنى التحتانية للثقافة، تحوّل المثقف إلى مقاول أجير، راهب ماكر، موظف خبير في البورصة أو في السياسة، وقد أخذ يترسّخ هذا النزوع نحو عدمية الثقافة، ابتداء من بورصات العملة وانتهاء بطبقة رجال الاعمال، عبر المرور بالشبكة العنكبوتية المعلوماتية، بل الاتجاه نحو المزيد من الاقتصاد المدمج بالعولمة إلى مستوى القضاء على ما تبقى من التنمية الوطنية المستقلة، أو رأسمالية الدولة الوطنية، التي راودت مخيّلة الأنتلجنسيا الرثة، وهي لاتزال تتقادم من ريف الكفاف ومدن الصفيح ومناطق بائسة غابت عنها خدمات الدولة. وإزاء هذه المعادلة التي حلّت فيها شعبوية الثقافة محل نخبوية الثقافة؛ هل انتهت صلاحية النخبة فعلا؟ لم يعد المثقف محصّنا ضد الارتداد الثقافي والتحوّل الأيديولوجي، خاصة بعد انهيار منظومة الأنظمة الاشتراكية، وتفكّك مراكز القوى اليسارية، حتى تغيّرت رسالة المثقفين على نحو مفارق: من تطلعاتهم إلى القضاء على الرأسمالية وتحقيق العدالة الاجتماعية إلى تبني الليبرالية واستنبات الديمقراطية من دون تحديث البنيات الاجتماعية، ما حوّل غالبية المثقفين من جماهيريين إلى خدم (بيزنس) نمطيين في تمجيد أيديولوجيا السوق. لقد أشاعت الليبرالية الجديدة في الطور الثالث من الرأسمالية – الروح الشعبية الاستهلاكية لأنثروبولوجيا الثقافة، وقد تنبّه فرانسوا ليوتار إلى سقوط السرديات الكبرى، ومنها الماركسية، بعد أن تحوّلت من ماركسية اقتصادية إلى ماركسية ثقافية. وخلافا لِما توقعه ماركس، لم يتحرّر العمل من هيمنة رأس المال، وتكمن طاقة الخطأ في ماركسية ماركس، في تجاهل السياق الاقتصادي لأيديولوجيا السوق، وفي تجاهل السياق السياسي لمفهوم الديمقراطية الذي طرحه في مخطوطته عام 1843، وتبنيه لمفهوم (ديكتاتورية البروليتاريا).
من أخطر النتائج الناجمة عن انهيار البنى التحتانية للثقافة، تحوّل المثقف إلى مقاول أجير، راهب ماكر، موظف خبير في البورصة أو في السياسة، وقد أخذ يترسّخ هذا النزوع نحو عدمية الثقافة.
لهذا أدّى سقوط السرديات الكبرى وشيوع الروح الشعبية (اليومية/ العادية/ الهامشية) إلى ظهور ثقافة تعددية قائمة على إنتاج الحرية الليبرالية الرأسمالية للفرد والسوق. ومن الطبيعي أن تعبّر ردة المثقفين عن رثاثة هذه الأنتلجنسيا، وإلاّ لماذا تخلّى بعض المثقفين عن الماركسية؟ ولماذا تحوّل البعض الآخر من ماركسيين إلى إسلاميين؟ وما معنى ازدواجية مفكر إسلامي سلفي بين أن يكون مسلم مبادئ من حيث الإيمان وليبراليا من حيث الآليات في التفكير؟ إن هذه التبدلات وغيرها تكشف عن ردّات ثقافية وأيديولوجية، تحوّل بها مثقفون من اليسار إلى اليمين، ومن الماركسية إلى الأصولية الإسلامية، ومن الراديكالية إلى الليبرالية الوحشية، ومن معارضة الأنظمة السياسية إلى الانخراط فيها. وقد وصف جورج طرابيشي التيار الغالب لهذه الأنتلجنسيا العربية بـ«الأنتلجنسيا الرثة» واعترف بأنه جزء من (رثاثة هذه الأنتلجنسيا).. إذن أليست هذه الرثاثة سبب ردة المثقفين؟
يجب الاعتراف بوجود أزمة عميقة وشاملة تحيط بنا وتشتمل علينا. وفي هذه الأزمة تتعرّض البنى الثقافية في بلادنا إلى تغيير جذري في الأدوات والماهيات والمفاهيم، خاصة بعد أن أطاح التغيير البنى التحتانية وطال البنى الفوقية في الأساس. وعلى الرغم من الفوضى المدمرة الناجمة عن الأزمة، فإن هذه الأزمة تضعنا على عتبة مرحلة جديدة من التحوّل نحو نظام معرفي جديد، ويمكن اختزال هذه الإشكالية بسؤال مركزي: أهي أزمة مثقف أم أزمة ثقافة أم أزمة مجتمع برمته؟ قبل الإجابة. لقد خلخلت هذه الأزمة – الذات الثقافية وإن لم تقوّمها حتى الآن، ذلك أن المثقف لا يزال يتحاور مع فواعل هذه الأزمة بقلق إيجابي، ليس لأنها أزمة قيم ومعايير ومفاهيم ثقافية سائدة فقط، وإنما أزمة ماثلة في بنية المجتمع على أرض الواقع. ولكن بين أن يستوعب المثقف إشكالية هذه الأزمة، وأن يستوعبه التغيير الناتج عنها – مسافة متوترة بين الدين والعلمانية/ الحرية والهوية/ القومية والتعددية/ العولمة والخصوصية، أي بمعنى: متوترة بتعقيدات اللحظة التاريخية المعاصرة. إذن هل ستتخطى ذات المثقف هذه الأزمة؟ أم أن الأزمة ستقوم بتشتيت ذاته الثقافية، ومن ثم الإطاحة بها؟
قد تتحول هذه الأزمة في سير المثقف ومصيره إلى قوة معرفة جديدة محرِّكة دافعة بقوة التوجّه نحو الاختلاف مع السائد الثقافي، أي كيف يكون المثقف فاعل الحرية في تمثيل الثقافة الفردية، وكيف يكون أداة الديمقراطية في تمثيل ثقافة الرأي والرأي الآخر، وكيف يكون غاية أخلاقيات المستقبل في تمثيل ثقافة المجتمع المدني، ولاسيما بعد أن تعرّضت منظومة الأنظمة المعرفية إلى تغيّرات نوعية وكمية في العالم. وسواء انكفأ المثقف على ذاته بفعل هذه الأزمة، أم تجاوز الحافات الخطرة منها، فإن التغيير الناجم عن هذه الأزمة – هو تغيير حتمي يستدعي التأسيس لمفهوم جديد لحركة التغيير، ومن ثم الانطلاق بخطاب ثقافي جديد مستوعب لواقع الأزمة بوعي متقدم عليها. ولكن هل الخطاب الثقافي ما زال مأسورا بدوامة هذه الأزمة؟ على الرغم من أن الخطاب الثقافي ـ قد تغيّر في لغته وحواره بين الذات والآخر، إلاّ أنه لم يعكس التغيير الناجم عن الأزمة بدرجة كافية لأسباب أُخرى.
إن كانت الأنتلجنسيا قد أخفقت في بناء مشروع الدولة الحديثة في عصر النهضة، بعد أن أعاقت مشروعها عوامل التخلف والقهر والاستعمار، فإن حراكها الجديد يشير إلى أنها المرشّحة لبناء مجتمع المستقبل المعرفي.
يمكن أن نلحظ من خلال التشكلّات المعرفية الجديدة للأنتلجنسيا العربية ـ تغيّر اتجاه حركة الثقافة من خطاب التخلف والنقد الذاتي إلى خطاب التكنولوجيا والتطور العلمي، ولكن هل تشير حركة هذا الاتجاه إلى مرحلة انتقالية جديدة من أنماط التفكير بالنهضة العربية إلى عصر التقانة؟ إذا كانت الأنتلجنسيا تتميّز بخيال استراتيجي، فإن هذا الخيال غالبا ما يصطدم بعوامل الإعاقة الأبستمولوجية لتفكيرها الثقافي، ومن هذه العوامل: مهيمنات السلطة والتخلف السياسي، التي تدفع بالأنتلجنسيا إلى الانكفاء على ذاتها من الداخل، ويمكن أن نستدل على ذلك من كلام هشام جعيط في كتابه «الثقافة والسياسة في العالم العربي»، وهنا نقتطف منه هذه الفقرة: «أشعر بأنني ذليل لانتمائي إلى دولة بلا أفق وبلا طموح، دولة متسلطة حين لا تكون استبدادية، حيث لا يجد لا علم ولا عقل ولا جمال للحياة، ولا ثقافة حقيقة، هذه الدولة تقمعني، وفي مجتمع الإقليم الريفي أختنق، كما أعاني من كوني مقودا من زعماء جهلاء ومعدومي الثقافة . وإنني كمثقف أعيش حالة عصاب نفسي».
على الرغم من قوة هذه الشهادة ومصداقيتها على دراما المثقف في بلداننا العربية، فإن هذه الدراما لم ولن تكون نهاية المثقف أو موته، وإن كانت محكومة بمنطق اليأس والتيئيس الثقافي، فالأنتلجنسيا- خاصة الأجيال الجديدة منها- لم تعد تكتفي بنقد الذات والهزيمة وتفكيك ما تبقى من النظام الأبوي، وإنما تتجه بقوة الاختلاف مع السائد نحو التكنولوجيات الجديدة بخيال ثقافي أكثر فاعلية، وإن لم تتجاوز التلقي السلبي للتلقين المعرفي والعلمي.
وإن كانت الأنتلجنسيا قد أخفقت في بناء مشروع الدولة الحديثة في عصر النهضة، بعد أن أعاقت مشروعها عوامل التخلف والقهر والاستعمار، فإن حراكها الجديد يشير إلى أنها المرشّحة لبناء مجتمع المستقبل المعرفي في عصر التقانة، خاصة بعد أن تفككت المنظومة (البطرياركية) بفعل التغيير الذي أطاح أنظمتها السياسية وأبنيتها السلطوية. وإن كان لا يمكن النظر إلى الأنتلجنسيا المنتجة للثقافة بمعزل عن التكنولوجيا، بوصفها معرفة قبل أن تكون تجارة دولية معولمة، فهل ستنجح أجيال الأنتلجنسيا الجديدة في إعادة التوازن المفقود بين القيم التي حُذِفت، والقيم التي حلت محلها في البنيات الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل ستنجح أيضا في بناء مجتمع المستقبل على طريق تحولات المعرفة، ولا سيما بعد الانتقال من نظريات الخيال العلمي إلى ممارسة الخيال الإستراتيجي للتقانة؟
ذلك هو الشاغل المركزي لنا في صناعة المستقبل.
٭ ناقد وكاتب من العراق
مقال رائع به توصيف دقيق لحالة المثقف في العالم وليس العربي فقط حيث نرى اهدار لقيم الحرية والاخلاق لصالح التواءمات السياسية
أشعر بأنني ذليل لانتمائي إلى دولة بلا أفق وبلا طموح، دولة متسلطة حين لا تكون استبدادية، حيث لا يجد لا علم ولا عقل ولا جمال للحياة، ولا ثقافة حقيقة، هذه الدولة تقمعني، وفي مجتمع الإقليم الريفي أختنق، كما أعاني من كوني مقودا من زعماء جهلاء ومعدومي الثقافة . وإنني كمثقف أعيش حالة عصاب نفسي». لماذا التركيز في هذه الفقرة على الدولة؟
شكرا لك استاذ أبو عزيز ، لأنك تنبهت الى فقرة الدولة ونبهتني اليها في آن ؛ لأن هذه الفقرة التي كتبها المفكر العربي هشام جعيط ، تتألف من طباق نصي ، ومايعنينا منها – النص التحتاني ، واعني به إشكالية العلاقة الملتبسة بين المثقف والدولة ، وتتمثل اشكالية هذه الدولة في وعي المثقف المعذّب بأدواتها القهرية . وبكلمة موجزة : ليس لدينا دولة ثقافة ، وانما ثقافة دولة قائمة على نقص الواقع وفساده .