لا يستطيع الإنسان أن يفكّ لغز ظاهرة تتكرر في طول وعرض الوطن العربي، وتتمثل في مواجهة المشاكل نفسها، عبر السنين والأجيال، بالأساليب والعقلية نفسيهما، وبإرادة تتراجع بدلاً من أن تقوى وتتحسّن. ينطبق الأمر على المشاكل الكبرى المعقدة مثلما ينطبق على المشاكل الأصغر.
سأختار مشكلة التركيبة السكانية في دول مجلس التعاون كمثل، فمنذ حصول دول مجلس التعاون على استقلالها الوطني منذ أكثر من نصف قرن، والكتابات والمؤتمرات تكتب وتطرح من قبل الكتاب المحلّلين، ومن بعض مؤسسات المجتمع المدني، منبّهة إلى تعاظم مخاطر مشكلة التركيبة السكانية في جميع دول المجلس، ومقترحة حلولاً معقولة تراكمية، لكن المواقف الرسمية في هذه الدول تظل كما هي دون أي تغيير: مواجهة وتخطيطاً وبدائل.
ولتوضيح هذا الأمر أكثر دعني أشير إلى محاضرة ألقيتها منذ حوالي خمس عشرة سنة بشأن إشكالية التركيبة السكانية. لقد أشرت بوضوح وهلع إلى أن سكان دول مجلس التعاون في عام 1975 كانوا سبعة ملايين ونصف المليون نسمة، وأن عدد الوافدين آنذاك كان حوالي مليونين، وبالتالي فإن ذلك يجعل نسبة الوافدين آنذاك من مجموع السكان حوالي ثلاثين في المئة، لكن تلك الأعداد والنسب تغيرت بصورة هائلة بحلول سنة 2008، سنة المحاضرة، أي بعد مرور ثلث قرن. لقد اقترب العدد الإجمالي للمواطنين في دول المجلس من ثلاثة وعشرين مليوناً، بينما وصل عدد الوافدين إلى حوالي ستة عشر مليوناً، لتصبح نسبة الوافدين من مجموع السكان في الدول الست حوالي سبعين في المئة. وأشرت إلى فداحة نوع العمالة الوافدة، عندما أشرت إلى دراسة قام بها عمر الشهابي، الذي بين أن النسبة المئوية للعرب في مجموع الأيدي العاملة الوافدة تناقصت من 72% في عام 1975 لتصبح في سنة 2004 اثنين وثلاثين في المئة فقط، أي تناقصت بمقدار النصف. ونبّهت، مثلما نبّه غيري، إلى أنه «لا يحتاج الإنسان لحاسوب ليدرك حجم الفاجعة في التركيبة السكانية التي ستواجهها دول المجلس، بعد ثلث قرن، لو أن نسب الزيادات في أعداد الوافدين غير العرب ونسب التراجع في أعداد الوافدين العرب استمرت بهذه الوتيرة».
هناك سياسة تجنيس كل أنواع الأجانب غير العرب المتسارعة في كل دول المجلس بينما تتراجع نسب العمالة العربية من شتى أقطار الوطن العربي
الآن نحن نقترب من قمة تلك الوتيرة كما سنرى. منذ فترة بيّن الدكتور حسين غباش أن هناك 16 مليون آسيوي في بلدان مجلس التعاون، وأنه من المرشح أن يصل إلى 30 مليونا في عام 2025، أي بعد سنة أو سنتين من الآن. وأشار إلى أن هناك سبعة ملايين آسيوي في الإمارات وحدها، يشكل الهنود منهم 60% من مجموع السكان. ويكاد الأمر في قطر أن يكون مماثلاً للإمارات. وعلى الرغم من أن النسب في بقية دول المجلس أقل من ذلك، إلا أنها تبين زيادات كبيرة مرشحة إلى أن تتضاعف في السنين المقبلة، وبالتالي فان الظاهرة هي واحدة. وخرج بنتيجة إلى أن الوجود الأجنبي، وغالبيته الساحقة من غير العرب، ينخر في الجسم العربي الخليجي. ومثل غيره أشار إلى المخاطر الكثيرة المقبلة، وإلى قلة تفعيل الحلول لمواجهة تلك المخاطر. دعنا هنا نشير إلى أربعة مخاطر مقلقة يكثر الحديث عنها..
*هناك الاقتراب التدريجي المقبل من أن المجتمع الدولي بدأ يطالب بحق القوى العاملة المهاجرة في التوطين والمواطنة، بما فيه حقهم في الإتيان بعائلاتهم ليسكنوا معهم. وأنه سيتبع ذلك قرار دولي بحق هؤلاء في التصويت في الانتخابات البلدية والنيابية، وفي حق التمثيل النسبي في بعض سلطات الحكم التنفيذية.
*هناك الصعود الكبير لبعض الأفراد والمؤسسات الأجنبية غير العربية، في تقلد المناصب الكبرى في الشركات والبنوك وشتى مؤسسات القطاع الخاص الحيوية. وشيئاً فشيئاً ستكون لبعض هؤلاء الكلمة الفاصلة في شؤون الاقتصاد والمال، وبالتالي في شؤون مصير واستعمالات ثروات البترول الهائلة.
*هناك الأخطار الثقافية الهائلة، ومن ضمنها على الأخص التراجع والتهميش لوجود استعمالات اللغة العربية في كثير من المجالات، والتي ستهدد مستقبلاً الهوية العروبية، بل حتى الإسلامية، في مجتمعات دول المجلس. ويتكلم البعض عن مأساة خليجية مماثلة للمأساة الفلسطينية، والعديد من مآسي ضياع أجزاء من الوطن العربي في المستقبل. ولن يعدم الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية إيجاد الأسباب الكاذبة لخلق كيانات استئصالية مماثلة للكيان الصهيوني في الخليج العربي.
*هناك سياسة تجنيس كل أنواع الأجانب غير العرب المتسارعة في كل دول المجلس بينما تتراجع نسب العمالة العربية من شتى أقطار الوطن العربي، كما بينّا سابقاً والذي يصب في تقوية وإنجاح كل المخاوف التي ذكرنا.
نعود من جديد إلى النقطة الأساسية وهي الغياب شبة التام لخطة استراتيجية متناغمة من قبل مؤسسة مجلس التعاون الخليجي لمواجهة هذه الإشكالية. وعلى سبيل المثال فقد اقترح وزراء العمل في أقطار الخليج بعض الحلول وقدموها لأحد مؤتمرات القمة الخليجية، لكن الانشغال بالصراعات وبمرض السيادة الوطنية والضعف والوهن الذي أصاب مجلس التعاون مؤخراً، لأسباب يعرفها الجميع قد قادت إلى تأجيل بعد تأجيل لهذا الموضوع وإلى اقتراب منطقة الخليج العربي، أحد أجزاء الوطن العربي، إلى حدوث مأساة مماثلة لمأساة ضياع الأندلس. وسينطبق آنذاك على قادة مجلس التعاون ما قالته أم آخر خليفة أموي في الأندلس عندما رأته يقف باكياً على ضياع آخر مملكة: «إبك كالنساء على مُلكٍ لم تحافظ عليه كالرجال». وسأسمح لنفسي أن اضيف: لو أن أمرأة حكمت الأندلس لما ضاعت الأندلس وضاع غير الأندلس يا سيدتي القوية الحكيمة.
كاتب بحريني