أسس الوعي الإيديولوجي الذي تحكم في المنطقة العربية، ولا يزال، وإن بدرجات متفاوتة وتبعا لظروف كل بلد، لأدبيات تحتقر التسلية والترفيه. واستند في ذلك إلى خلطة يسارية قومية دينية، التقت مصادرها أحياناً في مصب واحد، لتدرج الترفيه والتسلية، كعنصرين ينتج عنهما أفراد “غير ناضجين” كفاية لفهم مصالحهم وتشكيل آرائهم، وجرى استدراج مفاهيم “الاستلاب”، و”الغزو الثقافي” لتصبح مفاتيح، لفهم وشرح هذا القصور عند الهاربين من الجدّية.
لا شك في أن أنظمة الانقلابات والثورات الحاملة للأفكار الراديكالية، ساهمت في تعميم بيئة خصبة لمعاداة الترفيه والتسلية، غير أن المادة الأساسية جاءت من المثقفين، بحكم أن غالبيتهم تشكلوا يساريا ودينياً وقوميا. اليساري، اختصر الرأسمالية بكل تعقيدها، بالاستهلاك، فباتت التسلية بالنسبة له، قرينة على استعباد الشعوب ونهبها، والديني، لم يكن مرتاحا لترفيه خارج عن معاييره وتصوره للحياة، فيما اشتبه القومي بكل ما يلهي عن القضايا المصيرية الكبرى.
والثلاثة، اجتمعوا بالنتيجة على نبذ الترفيه والتسلية واحتقارهما، وردهما إلى التسطيح والتفاهة، من دون التنبه، إلى ربطهما مع سياقات غربية متداخلة قوامها، انقلابات في النظر إلى العالم وعناصره. إذ تغيرت النظرة، إلى الجسد والحسية والنساء والأقليات واليسار والدين، خلال فترات متفاوتة، فصارت الصورة والأغنية والفيلم، إما حوامل لهذا التغيير، أو خاضعة لتأثيراته، أي أننا يمكن أن نشاهد فيلما أمريكياً يتحدث عن مسألة العبودية، أو نقد المؤسسات الحاكمة، ويمكننا أيضاً أن نشاهد، فيلما تجاريا “أكشن”.
لا شك في أن أنظمة الانقلابات والثورات الحاملة للأفكار الراديكالية، ساهمت في تعميم بيئة خصبة لمعاداة الترفيه والتسلية، غير أن المادة الأساسية جاءت من المثقفين
الفيلمان متصلان بالتغيرات، التي ذُكرت، ولكن بدرجات مختلفة، فالأول قد يكون حاملا للتغيير بمعنى الانقلاب بالأفكار والتعبير عن الجديد، فيما الثاني، انعكاس غير مباشر لناحية التقنيات وصناعة الصورة وتطور فن السينما. وعليه، فإن الفيديو الكليب وبرنامج المسابقات والمسلسل الدرامي ذا الحبكة التقليدية، ليست سوى، نتاج لهذا التحول، بحيث أن ما يدهشنا من أعمال فنية، يوازيها ما يسلينا ويرفه عنّا. وبين المتعة والتسلية، ثمة مساحة للتعددية، تضمن إرضاء أذواق مختلف المستويات، من دون أحكام قيمة. والتمسك الإيديولوجي بنبذ الترفيه والتسلية، توازى مع إغراق العالم العربي، بكل أنواع الأفلام والأغاني والمسلسلات وبرامج المسابقات، بفعل الطفرة النفطية التي استثمرت في الفضائيات، فصارت لدينا صناعة للترفيه من دون وعي بهذا الترفيه، بل إن الوعي بقي ناقدا ونابذاً ويتحدث عن مؤامرات وخطط لـ”إلهاء العقل العربي”.
هكذا، أضيف إلى الالتباس في فهم الترفيه، نقله إلينا كحالة معزولة منزوعة من شروط تطورها، ما منح ناقدي التسلية، حججا جديدة، فصاروا يتحدثون عن مواطن عربي لا ينتج، ولا يعمل، ويمضي وقته في متابعة الفضائيات التي تستهلكه وتستلبه، فكان عدم تطوير المثقفين الأيديولوجيين، مفاهيم وأدوات لردم الفجوة مع الغرب، مزدوجاً، مرة في فهم الترفيه وسياق ارتباطه مع التطور الغربي، وأخرى في استقباله وانتشاره في بلداننا.
المفارقة أن هذا النقد للترفيه تواصل عبر فضائيات تبث برامج تسلية وألعاب وفن، بمعنى أن صناعة الترفيه ابتلعت نقده، وجعلته جزءاً منها، ليس بسبب مؤامرة لتمييع هذا النقد، على ما يحلو للأيديولوجيين التفسير بتسرع واستسهال، بل لأن هذا النقد يستند إلى أيديولوجيات قومية ويسارية كلاسيكية، انهارت منذ زمن، لدرجة أنك يمكن أن تجد فيديو كليب مشغولا بتقنيات عالية أكثر فائدة من مقال لمثقف أيديولوجي ينتقد الترفيه، حيث أن الأول انعكاس لعالم شديد التعقيد، تلعب فيه الصورة دوراً حاسماً، بينما الثاني ينتمي إلى عالم مات وانتهى، كما أنه يُستخدم من قبل الأنظمة، كذريعة، للتحكم وتقنين صناعة الترفيه. فمحتوى “التوك توك” مثلا، لم ينج من تدخل السلطة، بحجة الأخلاق، التي طالما تتكرر المطالبة بها في مقالات الأيديولوجيين، الكارهين للترفيه.
*كاتب سوري
شكر ا أخي أيلي عبدو. المقال عميق وجميل يحتوي على أفكار نقدية. ماأستطيع قوله أن الحزية هي لغة العقل الناصج! أي الذي يرى في الحرية فرصة لحياة متطورة جديدة، بينما العكس هو العالم الذي انتهى ومات أو لم بنصج بعد. لكن مما لاشك فيه أن المجتمعات العربية تعاني من مشكلة الإستهلاك في جميع المجالات وليس فقط برامج وأفلام التسلية! وأعتقد أنها معضلة كبرى في مجتمعاتنا.