يتمثل التحدي الأساسي للقرآن الكريم ضد مشركي العرب المتباهين بالفصاحة وبلاغة القول، بأن القرآن نزل على طرائقهم نفسها في البناء البياني، كما يقول أبو إسحاق الشاطبي في كتابه «الموافقات»: «فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب، ميسرا للفهم، فيه عن الله ما أمر به ونهى، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي».
وهو ما يعني أن القرآن نزل بالطرائق اللغوية والبيانية نفسها التي درج عليها العرب إنشاء وفهما، شعرا ونثرا، وإلا صار التحدي لا معنى له، فمن طريقتهم في الكلام، تنزل القرآن، وعلى شاكلة لسانهم سمعوا آيات، وبالتالي كان التحدي لأفصح فصحائهم وأبلغ بلغائهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فلم يستطيعوا.
والحكمة واضحة والكلام لا يزال لأبي إسحاق الشاطبي في كتابه «الموافقات» إذ يعلل هذا قائلا إنه: «لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه، لكان خطابهم فيه من تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن الأمة، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه، إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا».
وهو ما يسمى في منظور علم أصول الفقه «معهود الخطاب» الذي يعني: جميع الأعراف والقواعد والخصائص والأساليب والمعاني اللغوية وجميع أوجه الاستعمال اللغوي، وأنواع المجال التداولي المتعارف عليها بين مستخدمي لغة معينة. أما معهود العرب في الخطاب فإنه: مجموع الأنماط والأساليب الخطابية التي عهدتها وعرفتها العرب في الاتصال بلسانها العربي. بمعنى أنه يجب أن تكون واعيا متذوقا للعربية الفصحى على النحو الذي كان سائدا إبان نزول القرآن الكريم، حتى تفهم أسلوب القرآن وآياته وتعي إعجازه. وإذا طبقنا هذا المفهوم في فكر عبد القاهر الجرجاني البلاغي، فلا شك في أن السياق النصي للغة العربية على مستوى المفردات والتراكيب هو الأساس في توليد المعنى، عندما ينظر الباحث إلى قوة البنية النصية وتماسكها النحوي، وإبداعها في نظمها، ذلك أن المعول عند الجرجاني أن يتم ترتيب المعاني في النفس أولا، ومن ثم يكون ترتيبها النحوي حادثا، على حد قول الجرجاني: «ترتب المعاني أولا في نفسك ثم تحذو على ترتيب الألفاظ في نطقك» هذا بالنظر إلى بناء النص من جهة مبدعه /مؤلفه، أما من جهة تلقيه وتحليله، فهنا يكون فهم العربية الفصحى له الدور الأبرز، حيث سيكون السياق معتمدا على تحليل العلاقات النحوية، الرابطة بين الكلمات والجمل، وهي جزء من القرائن النصية واللفظية التي يفهم المعنى من خلالها.
«لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه، لكان خطابهم فيه من تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن الأمة، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه، إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا».
لذا، هو يستحضر دائما القرائن المنفصلة في تحليله للآيات، أي كيفية فهم ألفاظ الآيات على النحو الصحيح، ولا بأس من العودة إلى شرح الرسول للآيات أو فهم كبار الصحابة، رافضا أن يحمل اللفظ على ظاهره فقط، وأن هذا وارد حتى على أهل العلم، ومثال ذلك، ما ذكره في سياق تناوله أن الاسم إذا قصد إجراؤه على غير ما هو له لمشابهة بينهما، يكون على وجهين منهما: أن تسقط ذكر المشبه من البين حتى لا يُعلَم من ظاهر الحال أنك أردته، فيقول معمقا مراده: «ولذلك تجد الشيء يلتبس منه حتى على أهل المعرفة، كما رُوي أن عديّ بن حاتم، اشتبه عليه المراد بلفظ الخيط في قوله تعإلى:»حتّى يتبيّنَ لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ»(سورة البقرة، الآية 187) وحمّله على ظاهره. فقد رُوي أنه قال لما نزلت هذه الآية: «أخذت عقالا أسود وعقالا أبيض، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيّن، فذكرت ذلك للنبي فقال: إن وسادك لطويل عريض، إنما هو الليل والنهار.
لقد ذكر موقفا لصحابي من أهل المعرفة، كقرينة منفصلة، مستدلا به على أمرين: سوء الفهم والالتباس لدى البعض، وأن الخيطين الأبيض والأسود إنما هما على سبيل التشبيه، كما ذكر الرسول في رده على عدي. فاستعان الجرجاني بما هو خارجي منفصل عن النص: موقف لعدي بن حاتم، وحديث لرسول الله في توضيح المراد من كلامه.
وفي مثال آخر على دور نظم الكلام وترتيبه بشكل صحيح، يقول عبد القاهر: «واعلم أن من الكلام، ما أنت تعلم إذا تدبرته، أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله إلى ضم بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل، فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، كمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان معناك معنى، لا يحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله». فالعطف هنا كان سببا رئيسيا في تضفير الجمل، ودعم البناء النحوي للنص، أما دراسة المعنى في النص، فهذا يتوقف على السياق اللغوي، الذي يوجد فيه ولظروف النص أو الخطاب التي تحيط بها، لذلك تحتاج إلى حدة الذهن وقوة الخاطر.
ويطبق هذا على الفقرة أو الجزء من النص، ويقصد به التوقف عند مقطع من الآيات الكريمة، وقد ضرب عبد القاهر المثل بذلك بقوله «وعشرا عشرا «، والعشر من القرآن هي: الآيات التي يتم بها العَشْر، وأرى أن المقصود بها الدلالة على المقطع أو الفقرة أو عدة آيات من القرآن، وقد ضرب عبد القاهر المثل بها على سبيل التحدي للمشركين، الذين عجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، أو سورة واحدة أو حتى آية. لقد استطاع عبد القاهر بفكره الثاقب أن يقرأ الآيات القرآنية وإعجازها الحقيقي في دائرة الذائقة اللغوية والأدبية العربية، وما يتصل بها من بنية نصية نحوية وبلاغية.
كاتب وأكاديمي مصري