■ أي علاقة يمكن لها أن تكون لنا، كجيل ثالث أو رابع من الفلسطينيين، بالتراث الغنائي والموسيقي الفلسطيني؟ ذلك الذي عاشه الجيل الأول، أو كان آخر من عاشه بشكله المباشر، ومارسه كراهنٍ لا كاستعادة، ثم كانت للجيل الثاني أغانيه الخاصة، أغاني الثورة الفلسطينية والفدائيين (فرقة «أغاني العاشقين» وغيرهم) ثم جاء جيل ثالث/رابع بدأ بهذا الفن من الأوّل، من التراث كما هو، استعادة له إلى راهننا، وإنعاشا له «بالصدمات الكهربائية».
أُدخل هذا التراث في أساليب غنائية ملوّنة كان أبرزها الجاز، لكن في السنوات الأخيرة فقط بدأ يدخل إلى الموسيقى الإلكترونية، بعد مساهمة مهمة ومستمرة من فرقة «دام» في إدخاله إلى الراب، ثم فرقة «47 سول» التي أحدثت لوناً موسيقياً خاصاً، وانطلقت بقوّة – وماتزال- فكرةً وأسلوباً وأداءً، موسيقى وغناء ورقصاً، ومؤخراً مشروعا «سُداسيا» أسسته كاميليا جبران، وهو عرضٌ مختلف وكولاجيّ وتجريبي.
في تجربة متقدمة وأتت كنتيجة طبيعية لذلك التطور الموسيقي الفلسطيني، فيما يتعلّق بالتراث أولاً وبالتحديث ثانياً، وكطبيعة عمل جماعي لأفراد هم أصحاب تجارب موازية، كان مشروع «إلكتروسطين» الذي يجمع بين موسيقيين إلكترونيين فلسطينيين، ونتجَ قبل أيام عن حفلة في باريس، وألبوم موسيقي يصدر قريباً. قد تكون الموسيقى الإلكترونية هي الأقل «استغراباً» في موسيقانا العربية/الشاميّة/الفلسطينية، الأقل في ما يمكن القول بأنّها ذات هوية ثقافية ومنشأ مكاني محدّد، إذ تطورَ نشوؤها بالامتداد عبر العالم، وصار لها أن تنتشر وتتكيف. هي النوع الموسيقي الأكثر أصالةً في عولمته، الأكثر «ما بعد حداثية» لنقل، الأقل هوياتية، الأقل قومية، الأكثر كونية، ذلك ما جعل فكرة أن «التراث مُدخل إليه» غير صحيحة بقدر ما هي فكرة أنها «إعادة تقديم لذلك التراث في سياقه» صحيحة.
الموسيقى التي تعتمد على آلات إلكترونية، والآلات الموسيقية التي فيها هي أولاً إلكترونية ثم موسيقية/صوتيّة، هي موسيقى عالمية بقدر ما هي الآلات عالمية، بقدر ما هي الأجهزة الإلكترونية محايدة وبدون هوية أو وطن، هويتها بهوية لاعبها.
المشروع الذي أنتجه رشيد عبد الحميد تأسس «في لمّ شمل» موسيقيين إلكترونيين أقاموا في بيت في مدينة رام الله لأسبوعين، هم برونو كروز، ولاء سبيت، ناصر حلاحلة، سارونا، مقاطعة، الناظر، جلمود، سماء.
سيكون الكلام عن فكرة أن مجموعة من الموسيقيين أدخلوا التراث إلى الموسيقى الإلكترونية صحيح نوعاً ما، لكن الأصحّ القول إن تطوّراً عالمياً متوازياً في كل أنواع الموسيقى، والإلكترونية نوع له عالمه الخاص، أجواؤه الخاصة، أجهزته الصوتيّة الخاصة، هو مستوعِب سهلٌ لغيره، هذا ما يمكن أن يجعله «تطوّراً» لغيره (للفولكلور مثلاً)، تطوّراً خاصاً مبتعداً إلى عوالمه، ما فصله عن غيره ليكون نوعاً آخر بالتراكم.
لكل ذلك أقول إن إدماج التراث في هذا النوع الموسيقي هو شكل من أشكال تطوره وبالتالي استمراريته، لذلك، فالموسيقى التي نسمعها – الشغل اللافت لمشروع «إلكتروسطين» مثلاً- هي النسخة الحديثة الإلكترونية لموسيقانا وأغانينا التراثية، هي النسخة الراهنة لذلك التراث، النسخة التي لم تقم على التوفيق بين نوعين موسيقيين، بل طوّرت أحدهما في سياق الآخر. لم يأت هؤلاء بـ«الإلكترونيك» لإيجاد طريقة لإدخاله في تراثنا الغنائي، بل قاموا بإعادة تقديم هذا التراث بالنوع الذي صار بالتراكم الموسيقى الإلكترونية العالمية التي نعرفها اليوم، والتي مرت تاريخياً على ثقافات وبلدان وموسيقى عدّة.
المشروع الذي أنتجه رشيد عبد الحميد تأسس «في لمّ شمل» موسيقيين إلكترونيين أقاموا في بيت في مدينة رام الله لأسبوعين، هم برونو كروز، ولاء سبيت، ناصر حلاحلة، سارونا، مقاطعة، الناظر، جلمود، سماء. التموا محمّلين بأرشيف غنائي فولكلوري جمعه «مركز الفنون الشعبية»، للانتقاء منها والاشتغال عليها ضمن سياق الموسيقى الإلكترونية الحديثة التي يشتغلها كل منهم على حدة، بأسلوبه وإلكتروناته الخاصة.
كان يمكن لهذا الشغل أن يكون عادياً لو أنّ موقع التراث فيها كان الحامل للموسيقى، كان الهاجس المسيطر على الجانب الإلكتروني من المشروع، لكن الموسيقى التي سمعناها في باريس، والتي نأمل أن لا تتأخر في الصدور في ألبوم خاص، كانت أساساً موسيقى إلكترونية بجودة عالية وعلى مستوى عالمي (يمكن العودة إلى وثائقي «بويْلر روم» عن الموسيقى الإلكترونية في فلسطين: «فلسطين أندرغراوند»). فهي موسيقى جيّدة أولاً وثانياً، ومشبعة بالكهرباء، وهي موسيقى تراثية ثالثاً، هي لا تحفظ التراث بل تُخرجه وتُنعشه وتُرعشه بالكهرباء. هي نسخة هذا الجيل من التراث، طوّرته ولم تُدخله إلى غيره، حملته ولم تُحمل به، وهي ليست «تفاهماً بين موسيقى الشعوب» بل النسخة الفلسطينية من موسيقى كونية. وهي إضافة إلى كل ذلك وبمستواه، ذات مقولة سياسية لا تقل أهمية عن المقولات/السلوكات السياسية المباشرة متعددة الأشكال.
هذا أسلوب جديد يقول فيــــه الفلسطينيون لمن أراد محو هويتهم الثقافية والوطنــــية أنهم هنا، كانوا هنا وهذا تراثهم، ومازالوا هنا وهذه نسختهم المطوَّرة له… فلتُدخلوا فيشة الكهرباء حيث يحلو لكم!
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا
أدخلنا فيشة الكهرباء ياسيدي لكن تيارالكهرباء كان مقطوعا من نتينياهو.فلم نسمع إلا قرقعة جنزيل الدبابات وأزيز الرصاص عن بُعد.