إله سبينوزا

فريدريك لونوار٭ | ترجمة: عثمان لكعشمي٭٭
حجم الخط
0

«الإله، هو كل ما هو موجود».
تَكتنف كلمة «الإله» مُجمل أعمال سبينوزا. لكن ماذا يَقصد بـ«الإله»؟ لقد كشفت لنا قراءة كتابه الموسوم بـ«رسالة في اللاهوت والسياسة» أن تصوره للإله كان بعيداً كل البعد عن تصور الديانات التوحيدية، التي تَعتبر الإله عبارة عن كائن أعلى سابق بوجوده على وجود العالَم الذي كان قد خلقه بإرادته.
هذا الإله الخالق المُتسم بإرادة وبذكاء وبرغبات، اختار في ما بعد شعباً هو الشعب العبري كي يُوحي إليه، ثم تجسد في شخص المسيح كي يخلص البشر، كما يعتقد النصارى. وهو الإله نفسه الذي آمن به المسلمون، الإله الخالق الذي اختار النبي محمد من أجل ختم النبوة. فكل من التوراة والإنجيل والقرآن تعزي الإله إلى صفاته – إنه عاقل، وقهار ورحيم، إلخ – كما يصورونه في وجوه تحاكي مَلامح البشر: إنه حاكم، وأب، وقاض، إلخ. فهو من خلق الخير والشر، وبمقدوره الاستجابة لصلوات البشر، وهو مَن يملك إمكانية معاقبتهم أو مُجازاتهم، فهم يدينون له بعبادته.
وفقاً لهذه النظرة، يكون الإله داخل العالَم وخارجه، مفارقاً له ومحيثاً له على السواء. كما سنرى ذلك، أن إله سبينوزا هو إله مغاير تماماً: إنه لم يخلق العالَم (الكون، أو الطبيعة، التي وُجدت منذ الأزل)؛ إنه ليس خارجاً عنه، وبالتالي فهو محايث له كلياً؛ ليس له صفات أو وظائف تحاكي البشر أو تتدخل في شؤونهم. إن هذا الإله الكوني المحدد من طرف سبينوزا، في بداية كتابه المعنون بـ«الإيتيقا» هو بمثابة «جوهر» لكل ما هو موجود.
لماذا شكل البشر إلهاً على صورتهم؟ في ضميمة مطولة تقع في نهاية كتاب الإيتيقا الذي كرسه صاحبه لفكرة الإله، يبدو أن تفسير كتاب سبينوزا هذا يرتبط بعروة وثقى بما نسميه «ميلاد الآلهة» حسبه، «يتصرف البشر على الدوام وفقاً لغاية معينة، بمعنى وفقاً لنفعية ما يرغبون فيه؛ ما ينجم عنه أنهم لا يسعون أبداً إلا إلى العلل الغائية للأشياء فور إتمامها، فلمجرد معرفتهم بها تطمئن نفوسهم، لأنه لن يبقى لديهم حينئذ أي داع إلى الشك». بمعنى آخر، يسعى البشر على الدوام إلى البحث عن «لمَ» الكامنة وراء الأشياء، يسعون باستمرار إلى إعطاء معنى للعالَم، للظواهر الطبيعية ولوجودهم. فمن شأن التفسير بالعلة الغائية أنْ يُطمئنهم: توجد الأشياء بطريقة ما لتَؤول إلى هدف معين.
هكذا، تخيلوا أن الأشياء الضرورية لعيشهم )من غذاء، وماء، إلى مطر للمحصول الزراعي، إلخ( قد تُدَبر من خلال رب أعلى يحرص على رعايتهم. «لقد سلموا بذلك، تبعاً لفيلسوفنا، بكون الآلهة تُسخر كل شيء لصالح البشر لكي يرتبطوا بها ويتشرفوا بتمجيدها، ما أدى بكل واحد من سائر البشر، وفقاً لطبيعته الخاصة، إلى ابتكار وسائل متعددة لعبادة الإله، حتى يحبه أكثر من غيره ويُسخر الطبيعة برمتها من أجل تلبية رغبته العمياء وشراهته اللا محدودة.
وعلى هذا النحو، غدا هذا الحكم المسبق عبارة عن خُرافة وانغمس في الجذور العميقة للأنفس؛ الأمر الذي جعل من كل امرئ يسعى إلى البحث بكل ما أوتي من قوة على فهم الأسباب الغائية لكل الأشياء وتفسيرها».
لقد تناولتُ، من خلال ثلاثة أعمال خاصة بالتاريخ المقارن للأديان، تلك المسألة المرتبطة بميلاد الشعور الديني هذا، فضلاً عن تحليل سبينوزا الذي يبدو لي صائباً جداً، أو بعبارات موجزة، من شأن المعارف التاريخية والأركيولوجية الراهنة أنْ تعلمنا أن الدين الأولي والعالمي للبشرية هو ضرب من ضروب الروحانية: اعتبر الإنسان العاقل أن الطبيعة برمتها كانت مسكونة بالقوى والأرواح. يتعلق الأمر هنا بشخصية نسميها اليوم بـ»العراف» التي كانت بتفويض من القبيلة تحمل على عاتقها، عبر حالة من الوعي المعدل، مسؤولية نسج علاقة مع هذه القوى والأرواح، بغية استرضائها ومحاورتها، لاسيما قبل الصيد أو لطب شفاء مريض. في العصر النيوليتي، أيْ قبل ما يناهز اثنتي عشرة ألف سنة، باشر البشر في الاستيطان. إذ حلت الفلاحة وتدجين الحيوانات تدريجياً محل الصيد وجني الثمار. امتنع الإنسان عن اعتبار الطبيعة مسكونة ومبتهجة بالأرواح، مع استبداله هذه الأخيرة بآلهة الحاضرة، التي كان يعبدها لكي تحميه من أعدائه وتساعده على تلبية حاجياته الضرورية للعيش (من مطر للغلة، وخصوبة للماشية، إلخ).
من هذا المنطلق بدأ ذلك الطقس الديني بامتياز ألا وهو: القربان. انطلاقاً من منطق عالمي للهِبة، ونقيضها، الذي سلط عليه مارسيل موس الضوء، عمل البشر على تبادل خيراتهم مع آلهتهم: يقدمون للآلهة أثمن ما يملكون (من ثمرات وحيوانات إلى بشر) مقابل مساعدتها لهم وشملهم برعايتها الإلهية. بفضل تكون الإمبراطوريات الكبرى وتطور سيرورة العقلنة، انتقلنا من معتقدات تعددية (ثمة آلهة متعددة، متساوية من حيث القيمة وذات وظائف متنوعة) إلى معتقدات واحدية(تقول بتفوق إله واحد على باقي الآلهة، مثل أمون في مصر، أو زيوس في يونان(وصولاً إلى معتقدات توحيدية) مثل أتون في مصر، ويهوه لدى العبريين، وأهورا مَزدا في بلاد فارس: لم يعد ثمة في نهاية المطاف أكثر من إله واحد ومتفرد، «الذي صنع الإنسان في صورته ومثاله» سفر التكوين)، الذي يسهر على العناية به ويستجيب لحاجياته في مقابل عبادته وطاعة أوامره.
انطلاقاً من وجهة نظر فلسفية، ودون أنْ يأخذ بأي برهنة تاريخية أو أنثروبولوجية، تمكن سبينوزا من معرفة أصل الأديان التاريخية الكبرى: المبدأ الغائي (كل شيء خُلق في الطبيعة من أجل مصلحة الإنسان (والمبدأ النفعي) أهبُ شيئاً ما إلى الإله ليمنحني رعايته). حسبه يتعلق الأمر بخرافة ترمي إلى طمأنة الكائن البشري.

* عالِم اجتماع فرنسي
** كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية