يعتبر الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة أيقونة الديكتاتورية العلمانية في المنطقة العربية، لكن عمله على تعزيز قيم العلمانية الاجتماعية لم يكن يعبر عن نزعة أصيلة في البيئة التونسية، ولا يعكس تطوراً اجتماعياً ذاتياً، فقراراته كانت في النهاية تخرج من مستبد شرقي تقليدي، الأمر الذي أدى إلى ظهور مقاومة مكبوتة تمثلت في نمو تيار إسلامي متعدد الأطياف، من التصوف إلى المحافظة وصولاً إلى التطرف الذي كانت تظهره مشاركة الكثير من التونسيين في الجماعات المتطرفة.
السياسة البورقيبية كانت تناصب الديمقراطية العداء، ولم تكن تنويرية باعتمادها على فرض رؤية الزعيم الملهم والضرورة في نسخته التونسية، ولذلك لم يكن شيء مما أنجزه متجذراً إلى حد ما في المجتمع، باستثناء وضعية المرأة التونسية لأنها كانت تنعكس بفائدة نوعية على المواطنات التونسيات اللواتي تمسكن بمكتسبات حقبة بورقيبة، خاصة أن هذه المعاملة استمرت في مرحلة الرئيس زين العابدين بن علي.
إلا أن السؤال الكبير الذي بقي مسكوتاً عنه يتعلق بمدى أهمية تحرير المرأة التونسية وتمكينها في مجتمع يعاني ككل من حكم بوليسي قمعي ويغيّب الديمقراطية، والمشاركة السياسية الحقيقية، ويرعى الفساد بصورة مؤسسية، ومن جديد يعود شأن المرأة التونسية إلى الواجهة مع تعيين الرئيس قيس سعيد الأكاديمية نجلاء بودن في منصب رئيس الوزراء، لأول مرة في المنطقة العربية، وفي الحقيقة لا شيء يدعو للاحتفاء أو التفاؤل في قرار الرئيس التونسي، لأن وجود بودن التي لا تمتلك الخبرة السياسية، أو الرؤية الاقتصادية، لم يكن نتاجاً لعملية ديمقراطية، ولم يكن خياراً شعبياً، بقدر ما يعبر عن فكر شخصي للرئيس التونسي، يعاني مثل بقية الأمور في تونس مما يمكن وصفه بالتقدم اللامتوازن، أي أنه يتقدم بوضعية المرأة التونسية من غير أن يكون ذلك مترافقاً بتقدم شامل للمجتمع التونسي، ويعطي صورة الانفتاح ويهمل جوهره في قيام مؤسسات الديمقراطية وتمكينها واستيعاب المرحلة الانتقالية التي تحتاجها الشعوب من أجل استقرارها.
بدأت الأزمة في تونس مع رداءة استراتيجية مواجهة وباء كورونا مطلع الصيف وانهيار القطاع الصحي، وكان الانقسام السياسي والمشكلات المتعلقة بأداء الحكومة ومجلس النواب، سبباً وراء هذا الأداء المخيب، وفي ظل الأوضاع المتوترة والغضب الشعبي، قرر الرئيس التونسي اللجوء إلى إجراءات دستورية أدت إلى فراغ سياسي، ترافق مع تركيز جميع الصلاحيات في منصبه الرئاسي، وكالعادة مددت هذه الإجراءات مع تمييع لوضعية الاستغلاق السياسي، بحيث لم يعد أحد يسأل عن مدى مشروعيتها من حيث المبدأ، ليصبح التساؤل حول مساراتها المقبلة، التي تعتبر تعيين نجلاء بودن، تأكيداً على التمسك بحالة رفض العودة إلى المسار الديمقراطي الذي انتهجته تونس منذ تدشينها للربيع العربي.
الرشوة التي قدمها سعيد باختياره نجلاء بودن لرئاسة الوزراء، تتوجه لتعزيز صورته، وكأنه المتنور وسط الظلام
هل يمكن أن تنجح بودن في مهمتها الصعبة والمعقدة؟ المشاعر الطيبة تجاه الشعب التونسي تدفع الأمنيات لمصلحة بودن، مع أن التركة ثقيلة ومرهقة، لكن الأمنيات وحدها لا يمكن أن تصنع الفرق المطلوب، وفي حالة نجاح بودن لأسباب تتعلق بتوفر تمويل لتونس، ومخصصات تستهدف إنجاحها، وانفتاح مصادر التمويل الدولي، أمام لفتة تونسية تتساوق مع المزاجات الغربية في التغيير والتحديث، فهل يمكن القول إن هذه الخطوة ستشكل سبباً لمزيد من النفور من الديمقراطية، لأن نتائجها السابقة بعد الربيع العربي، وهي نتائج لم تتشكل حقيقة إلا في تونس ومصر ونوعاً ما في ليبيا، أتت مخيبة، وأن الديمقراطية ليست الطريق المناسب لتحقيق التقدم والتنمية في المنطقة العربية؟ علاوة على ذلك، وبخصوص قيس سعيد نفسه، هل يسعى إلى تقديم نسخته الخاصة من المستبد المستنير، أو العادل، أو أياً يكن، مع قناعتنا بأن أي صفات إيجابية تلحق بالمستبد لا تغير من حقيقة استبداده في شيء، وهل تكفي حالات الفشل القليلة في التجربة الديمقراطية لتعزيز تجربة سعيد، واعتبارها حلاً متكاملاً للتأزم في تونس، وفي غيرها بالقياس، أليس في تاريخنا نماذج كثيرة لفشل منظومة الاستبداد، ولعدم جدوى وجود المستبد العادل أو المستنير، في ظل منظومة سلبية وخانعة يمكن أن تستسلم للمستبد الفاسد كما تتجاوب مع العادل؟
تحدث الرئيس التونسي بسخرية عن خريطة الطريق، وهو لا يتمتع بأي شيء من خفة الظل كمستبدين آخرين مثل السادات، ودعى المطالبين برسمها للخروج من المأزق السياسي، إلى البحث في كتب الجغرافيا، لكن يبدو أن الأولى أن يتوجه الرئيس نفسه إلى كتب التاريخ، وأن ينكب ملياً على مسيرة الأمم في بناء الديمقراطية ومؤسساتها، بحيث تصبح جزءاً أصيلاً من تقدم الشعوب بناء على أرضية من التنوير الجاد والمضني، عوضاً عن اختياره المسار التفخيخي للتجربة التونسية أمام تعثر مؤقت كان يمكن أن يعمل على زحزحته بالدعوة إلى انتخابات مبكرة تعيد المسار الديمقراطي من جديد. الرشوة التي قدمها سعيد باختياره الرئيسة بودن تتوجه لتعزيز صورته، وكأنه المتنور وسط الظلام، لكن وظيفته ليست أن يكون شمعة مهما طال عمرها ستؤول إلى الانطفاء، فوظيفة الرئيس والقائد هي أن يخرج من النفق المظلم إلى الشمس وأن يعمل على تقويض الظلام، لا أن يحول نفسه إلى ضرورة وظاهرة أبوية سلطوية وصائية متعالمة واحتكارية، وعلى ذلك، فإن تنصيب بودن رئيسة لوزراء تونس خطوة لا تستدعي الاحتفاء في تونس أو المنطقة العربية، وما يستدعي الاحتفاء حقيقةً هو وجود أول رئيسة وزراء أو رئيسة منتخبة بإرادة شعبية حقيقية.
كاتب أردني
قيس سعيد اخفق مرتين في اختيار وتعيين رؤساء للحكومة بدون تجربة تذكر, ادخال البلاد في نفق مظلم لانعدام خبرته في العلاقات الخارجية فلا يعرف كيف تورد الابل في العلاقات الخارجية, حتى علاقته مه جيرانه العرب وصلت للحضيض. الحل الوحيد اقصائه كليا عن السياسة وووضع خارطة طريق تجمع جميع الغيورين على هذا الوطن.
أغرب مانراه ونحن نتابع مقابلات سيادة الرئيس مع مرؤوسيه هو أسلوبه في بث خطاب أحادي لافيه شكّ ولايمنح فرصة للحوار. فالضيف، مهما كان مقامه، يتقدم إليه بخشوع تلميذ المدرسة الابتدائية أمام مدير المدرسة، ويؤدي له تحية أشبه ماتكون بتحيات العناصر المخابراتية، علماً بأن التباعد الإجتماعي لايفرض تلك الطقوس الصلبة، وأن التحية العربية حين تتم عن بعد، تكون بوضع اليد فوق الصدر من جهة القلب، وهي أرقى من “وقفة الاستعداد” العسكرية التي اعتمدها سيادته.
ثم تصر الكاميرا الرئاسية على نقل الخطاب بالتركيز على الضيف صامتاً خاضعاً خاشعاَ، وفمه مغلق، ورأسه يهتز بإيماءات الموافقة على كل شاردة وواردة.
إن الحرص على تقديم طقوس الاستقبال الفربدة هذه إلى الجمهور، بتفاصيلها الرمزية، تؤكد على اسلوب سلطوي عفى عليه الزمان.
هل هذا التقديم المسرحي من إخراج الرئيس ذاته؟ أم أن سيادته ضحية لمسشتشارين يصرّون على تقديمه عبر تلك الهيئة الدرامية الذي لاتليق قطعاً بمجتع ديمقراطيي؟
إحسنت على جميع الأصعدة.كلّ ما كتبتَه يجول في خاطر معظم التونسيين الذين تفطّنوا إلى فراغ الانقلابي قيس سعيد من كل نفس ديمقراطي ومن كلّ قدرة على إنقاذ تونس بل هو ضاعف بلواها وزاد من عذابه.
مهما كانت وجهة النظر يبقى قيس سعيد رئيس تونس ؟ وكل رئيس محسود من الجن والإنس.