لم يكن مفاجئا بالنسبة لحركة الاحتجاج في فرنسا أن تجعل حركة «السترات الصفراء» من ذكرى ميلادها مناسبة لإعادة طرح برنامج نضالي تصعيدي يؤشر على أن المشكلة في باريس لم تحل، وأن القضية لا ترتبط بمطالب جزئية، وإنما تعكس في الجوهر احتجاجا على تطور عميق في بنية الرأسمالية الأوروبية لجهة التحكم في دواليب الحكم، واستعادة هويتها وطبيعتها التي فقدتها أو تراجعت عنها زمن الصراع مع المعسكر الاشتراكي داخل أوروبا.
والواقع أن الأمر هذه المرة أخذ أبعادا اخرى مع انضمام المزارعين الفرنسيين لحركة الاحتجاجات عبر تنظيم احتجاج قوي الأربعاء الماضي باستعمال قوافل من الجرارات عرقلت حركة المرور وسدت المنافذ نحو الطرق السريعة أو الطريق الدائري.
قد تبدو هذه الاحتجاجات في ظاهر الأمر تعبيرا عن سخط من سياسات حكومية غير منصفة أو تذمرا من تدهور أوضاع فئوية، لكن بعض خصائصها تطرح أسئلة عميقة على التطور البنيوي الذي باتت تعانيه الرأسمالية الأوروبية.
أول الملاحظات التي تسجل، أن ظواهر الاحتجاج في أوروبا تندلع في جنوبها أكثر من شمالها، وهو أمر طبيعي تتحكم فيه خريطة معدل الدخل في هذه الدول، لكن المثير، أن فرنسا التي تتمتع بنظام يعتبر من أقوى نظم الحماية الاجتماعية بأوروبا تعتبر المتصدرة لواجهة الاحتجاجات.
ثانيا، أن الحقل السياسي في هذه الدول عرف في الآونة الأخيرة تحولات كبيرة، جعلت اتجاهات السياسة لاسيما في فرنسا وإسبانيا تتحكم فيها أحزاب جديدة غير تقليدية ظهرت مع أزمة الفراغ السياسي.
ثالثا، أن أوروبا باتت تعرف في المجمل مؤشرات مراجعة عميقة وتدريجية لأنظمة الحماية الاجتماعية لجهة إعمال كثير من المراقبة أو تقليص بعض المكتسبات.
رابعا، أنه رغم الأزمة التي تعانيها الرأسمالية الأوروبية في هذه البلدان، إلا أنها ماضية في تبني سياسات الأوراش المفتوحة التي تضمن مستويات استثمار دائم، رغم كلفتها المالية الثقيلة، وأحيانا رغم التساؤل عن جدواها كما هو الشأن في العديد من مشاريع البنية التحتية التي يجري الاستثمار فيها في بلجيكا.
والملاحظة الخامسة والخطيرة التي برزت في إسبانيا، هي ظهور النزعة الانفصالية، وتجدد بروزها في كاتلانيا رغم سياسات كسر العظم والتصعيد الذي نشب بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم على خلفية إصراره على إجراء الاستفتاء لتقرير مصيره. تلك النزعة التي لم تبررها دواعي اللغة والتاريخ، بقدر ما فرضتها الأزمة الاقتصادية التي ضربت إسبانيا، إذ لم تبرز مقولة الاستقلال بالموارد الاقتصادية محل المنطق التضامني بين الجهات إلا زمن الندرة، فأصبح المطلب الضريبي هو الهدف الرئيسي لحركة الانفصال في هذا الإقليم، مع تحميل الحكومة المركزية وحدها مسؤولية إغاثة المناطق الفقيرة، وإتاحة حق التصرف بعائدات الضرائب لفائدة الإقليم لمواجهة أزمة ديونه.
الخيارات المفتوحة التي تملكها الرأسمالية الأوروبية وقدرتها على المناورة والتحكم في الحقل السياسي لجهة تمرير متدرج ومتجه لسياساتها، قد يواجه بحركات قوية جذرية غير متحكم في اتجاهاتها
قد تبدو هذه الملاحظات متباعدة، لكن الخيط الذي ينتظمها يؤشر على أزمة بنيوية في النظام الرأسمالي الغربي، الذي يتجه لتصحيح مساره، واستعادة هويته، بتنقيحه من اللمسات الاشتراكية التي تم اللجوء إليها زمن الحرب مع المعسكر السوفياتي، أي الاتجاه إلى مراجعة منظومة الحماية الاجتماعية، وإن بشكل تدريجي، ثم الاتجاه نحو الدفع بنخبة سياسية جديدة تعبر عن هذا التشكل الجديد للرأسمالية الأوروبية، ولا تحمل في طياتها جينات النظام القديم، وهو ما يعبر عنه التحول في الحقل السياسي في عدد من دول أوروبا لجهة بروز نخب جديدة، ومعالجة أزمة تفكك مكوناتها الداخلية، بسبب من الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، إذ في الوقت التي تتجه بعض المكونات لمنطق حماية القطرية والمحلية، تحاول الرأسمالية الأوروبية فرض منطق الوحدة والتكتل، ومحاربة أي نزوع انفصالي يمكن أن يتحول إلى حركة مطردة تضرب كل دول أوروبا بسبب من واقع الندرة والصراع الرأسمالي الشرس على الفرص، ولعل أمثل صورة مدللة على جوهر هذا الصراع هو ما يجري من خلاف في بريطانيا حول مصير البريكسيت بين وجهات نظر متصارعة يحددها تقييم الأثر الاقتصادي للبقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي أو تدبير طريقة الخروج وزمنه.
من السابق لأوانه القول بأن أوروبا، أو بعض دولها مثل فرنسا، تفقد القدرة على مواجهة هذه الديناميات، فالأمر لا يزال في جنينياته، سواء تعلق الأمر بسياسات استعادة الرأسمالية لهويتها ومراجعة كلية لأنظمة الحماية الاجتماعية، أو تعلق الأمر بزخم الحركات الاحتجاجية حتى وهي تصل إلى عنفوانها مع حركة «السترات الصفراء»، لكن من المحتمل جدا، أن تنضج هذه الديناميات بتدرج في كل أوروبا وبشكل متناسب مع تفاوت في بعض الدول زمنا ودرجة، ومن المحتمل أيضا أن تعرف بعض الدول طفرات في هذا الاتجاه، وتشكل نموذجا ملهما للانفلات من أجندة الرأسمالية، لكن أقوى سلاح تتمتع به الرأسمالية الأوروبية، كونها تملك أجندة واضحة، وتملك المرونة الكاملة في طريقة تنزيلها، فرضا لسياسات ممكنة أو سحبا لها، أو تعديلا لبعض مقتضياتها، على أن يكون المنحنى العام الذي يحكمها متصاعدا في الاتجاه الذي تفرضه هذه الأجندة، وهو ما تم تسجيله في مجموع السياسات التي تم سنها في الخمس سنوات الأخيرة لاسيما على مستوى تأطير فضاء الشغل ومنظومة الحماية الاجتماعية. لكن المخيف في ردود الفعل، هو شكل الاحتجاج، الذي لم يعد يأبه بالسقوف الدستورية والقانونية، مما يمكن أن ينذر معه بثورة المنبوذين على شاكلة ما عرفته فرنسا سنة 1968، التي كان لها ما وراءها من تداعيات مست السياسات العمومية بشكل مباشر.
تركيب الخلاصات، أن الخيارات المفتوحة التي تملكها الرأسمالية الأوروبية وقدرتها على المناورة والتحكم في الحقل السياسي لجهة تمرير متدرج ومتجه لسياساتها، قد يواجه بحركات قوية جذرية غير متحكم في اتجاهاتها، تسائل جوهر النظام الديمقراطي، وهل بات فاقدا للقدرة على القيام بدوره التاريخي، الذي لم يكن في الحقيقة سوى القدرة على إنجاز تسويات تضمن السلم الاجتماعي وتسمح في الوقت ذاته بتطور الرأسمالية الأوروبية.
كاتب وباحث مغربي
ورغم أن فرنسا تملك نظام حماية اجتماعية هو الأقوى في أوروبا لكن المظاهرات تتصاعد في الجنوب الفرنسي من طرف ذوي الدخول الأضعف من الشمال، هذا دليل على الازمة عميقة جدا، والحل ليس في نفخ التحويلات الاجتماعية، وإنما في تحقيق عدالة أقتصادية، نعم ربما المصطلح جديد، العدالة الاقتصادية تعني مشاركة صناع الثروة الحقيقيين فيما ينجزون مباشرة وليس انتظار المساعدة الاجتماعية التي صارت عبارة عن مهدئات ومسكنات مؤقتة تزيد الشعور بالاقصاء والتهميش والازدراء .
” الأزمة التي تعانيها الرأسمالية الأوروبية في هذه البلدان”
” وأحيانا رغم التساؤل عن جدواها كما هو الشأن في العديد من مشاريع البنية التحتية التي يجري الاستثمار فيها في بلجيكا.”
أهلا فصلت بعض الشيء ياأستاذ التليدي ؟
الرأسمالية الأوروبية سواء اتفقنا معها أو لا ؟ فهي بحكم كل الإقتصاديين بخير اليوم وأفضل مما كانت عليه قبل عقود. تكلفة الإستثمار في يومنا هذا أفضل وأكثر مردودية من أي وقت مضى . باب الإقتراض أسهل بفائدة تعادل الصفر , يد عاملة متعلمة وافدة من آسيا مثلا , أسواق جيدة في دول العالم الثالث , أثمان جيدة بحكم التخفيض في كلفة الإنتاج والتصنيع, سعرفائدة يقترب من الصفر , يد عاملة جاهزة لم يصرف على تعليمها مليما واحدا , فحتى الشركات المصنعة مثلا لم تشتك كالسابق من ارتفاع أسعار المواد الأولية للتصنيع من معادن وغيرها.
تتمة :
فحتى أرقام البطالة في دول غربية فاعلة اقتصاديا مثل ألمانيا مثلا ب 3,1% بريطانيا 3,8 % . إسبانيا وفرنسا لديهم بطالة أكبر , لكن هاتين الدولتين مثلا إضافة لدول جنوب أوروبية أخرى تعرف خللا اقتصاديا في بنيتها التحتية, صعب عليهم التغلب عليها.
معك حق إن قلت أن العالم الرأسمالي اليوم في بداية ركود اقتصادي نسبي بعد ثماني سنوات رائعة من النمو وهو شيء طبيعي, (خمس سنوات / خمس سنوات ) بمعنى خمس سنوات إقتصاد في صعود وأخرى في هبوط , لكن هذه المرة امتدت فترة الصعود إلى ثمان سنوات. والاستثمار ليس دائما يأتي أكله آنيا وفي زمن وجيز وإنما قد يكون استثمارا لعقود قادمة, لذلك لايجب الحكم عليه بالخفقان أو بسوء التدبير إلا عندما تظهر نتائجه, لكن كما هو معروف في مثل هذه الأشياء يجب التمعن جيدا وليس المرور عليها مرور الكرام.
الأزمة أزمة اقتصاديات دول غربية بعينها في بنياتها الاقتصاجية التحتية وهي معروفة وليست أزمة الرأسمالية الغربية بأكملها.
أحب إضافة إلى زاوية الرؤية والتحليل في مقالة المغاربي (د بلال التليدي) تحت عنوان (إلى أين تتجه الرأسمالية الأوروبية؟) زوايا جديدة، والأهم هو لماذا؟
نحن في عصر الجيل الرابع من آلات الثورة الصناعية، التي دخلت إلى مجال عمل العقل في الإدارة والحوكمة، بعد مجال عمل العضلات،
أي هناك سباق بين الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية على الوظيفة/المقاولة في أي دولة،
على أرض الواقع، العقلية التجارية الفرنسية أساس مفهوم احتكار الواسطة والمحسوبية والرشوة لزيادة الأرباح بلا منطق ولا موضوعية، من خلال مفهوم العلامة التجارية، عند المنافسة في أي سوق، ودليلي على ذلك في عام 2019،
توسّط الرئيس الفرنسي ماكرون، مع الأمير محمد بن سلمان، لإخراج رئيس الوزراء اللبناني (سعد الحريري) من ضمن من كان محجوز في الريتز،
لأنه رئيس مجموعة شركات مقاولات (سعودي أوجيه)، مما أضطر بقية المحجوزين لسداد (100 مليار) كتعويض عن حقوق الدولة التي ضاعت بسبب الواسطة والمحسوبية والرشوة بين موظف النظام البيروقراطي كممثل للقطاع العام، وممثل القطاع الخاص،
لترسية/تنفيذ مقاولات خدمات الدولة، التي يجب أن توفرها للإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في أي دولة،
في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني، حتى لا يهاجر أصحاب العقول والمهن والمال إلى دولة أخرى تقدم خدمات بجودة وكفاءة أفضل،
كما قام بذلك الممثل/المقاول الفرنسي في عهد الرئيس ساركوزي، وقام بتسليم الجواز الرئيس الروسي (بوتين) بنفسه،
كدليل عملي على خطأ سياسة أوربا وليس فقط مصر الممثل/المقاول (محمد علي) أو سودان إنقلاب (عمر البشير) منذ عام 1989 أو بعد بداية تصدير منتجات توفير مواد الطاقة حتى للجيل الرابع من آلات الثورة الصناعية، في طريقة حساب الرسوم والضرائب والجمارك.
لأن لاحظت على أرض الواقع مفهوم الفوضى الخلاقة = الديمقراطية = الشرعية التوافقية، التي تحول كل تيار سياسي إلى مسخ، يتناقض مع أبسط المبادئ التي تم تأسيس الحزب عليها،
ومن هذه الزاوية تفهم الفرق بين ما حصل في تايوان والصين، أو جمهورية الصين الوطنية وجمهورية الصين الشعبية،
وبين موقف الأمم المتحدة غير الأخلاقي مع تايوان ( بسبب الثنائي نيكسون/كيسنجر) مثل فلسطين (بسبب الثنائي ديغول/ستالين)،
بعد إعلان سوق العولمة (1945) والإقتصاد الإليكتروني/الرقمي الموحد (1991) من مدريد، في الذكرى الخمسمائة لطرد ممثل ثقافة الآخر (اليهودي/المسلم) من دولة الحداثة لثقافة الأنا أولاً الأوربية،
والتي تسببت بالحرب العالمية الأولى والثانية، وسوق العولمة لثقافة النحن كأسرة إنسانية هو الحل،
في عام 2015 لم تكن فقط (عاصفة الحزم)، بل كان قانون باراك أوباما، لتغيير أو ضرب تراكم الحكمة الإنسانية (مفهوم الأسرة) عرض الحائط بقانون (ديمقراطي) لتحويل مفهوم الأسرة إلى علاقة ما بين ثقافة الأنا والأنا، لا يهم هنا الأنا، رجل، أو إمرأة، أو حيوان، أو آلة (روبوت)؟!
ومخطئ من يظن أن تجنيس أول آلة (روبوت) كمواطن في السعودية نهاية 2017، أو تعيين أول رجل أمن (روبوت) وأول طبيب (روبوت) في الإمارات العربية المتحدة قبل ذلك، تعني قبول السعودية والإمارات هذا التعريف،
بل أصحاب القرار في الدولة عمل ذلك من وجهة نظري، لأن ثبت له أن المواطن، يتعامل بلا إبالية وعدم تركيز، في أداء أي وظيفة/مقاولة، فتؤدي إلى فشل/تقصير/فساد في المُنتج الذي ينتجه من وظيفته/مقاولته مع الدولة،
ولكن لماذا إذن على أرض الواقع، نجاح كل من:
د طلال أبو غزالة، أو كارلوس غصن في القطاع الخاص،
وفي القطاع العام نتنياهو، دونالد ترامب، أو جورج بوش ومن بريطانيا طوني بلير أو ديفيد كاميرون أو بوريس جونسون، رغم كل تجاوزاتهم على القانون وخصوصاً ما يتعلق بدفع الرسوم للدولة؟!