«إلى أين تذهبين يا عايدة؟» للبوسنية ياسميلا زبانيتش… مذبحة سربيرنيتشا مجسدة في مأساة أم

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

فينيسيا ـ «القدس العربي»: لوهلة يباغتنا عنوان فيلم المخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتيش، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، في دورته السابعة والسبعين والمقامة حاليا، فهو لا يخبرنا الكثير عن الفيلم، ولكنه في الواقع خير عنوان يؤطر الألم والمعاناة، والأسى والرعب التي تصورها أحداثه. فأين للمرء أن يذهب لينجو بنفسه ومن يحب، من كل هذا الفزع؟ وأين الملاذ من كل ذلك الخوف؟ هو عنوان يجسد انعدام الحيلة واليأس المسيطر على من عاشوا مذبحة سربرينيتشا، التي قتل فيها الآلاف من أهل البوسنة، الذين حوصروا وسط النيران والأهوال، بدون مخرج أو أمل بالنجاة.

ينتزعنا الفيلم انتزاعا ليقذف بنا داخل الرعب والفزع، لمذبحة سربرينيتشا التي قتل فيها الآلاف من مسلمي البوسنة والهرسك. عايدة، التي نرى أحداث الفيلم من خلال عينيها، والتي يتحدث الفيلم عن مأساتها وعن خيارتها المستحيلة، مترجمة بوسنية من بلدة سربرينيتشا، تعمل مع قوات للأمم المتحدة في المنطقة.
وتبدأ أحداث الفيلم وتتكشف في ذلك اليوم المشهود، يوم 11 يوليو/تموز 1995 في سربرينيتشا، عندما قتلت وحدات من جيش صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش أكثر من 7000 مدني، معظمهم من الرجال والصبية.
لا تقدم زبانيتش الصورة العامة الضخمة في تصويرها للمذبحة المروعة، بل تركز على مأساة عايدة، الأم، التي تسعى جاهدة لإنقاذ ابنيها وزوجها من الهلاك المحدق. ننغمس كلية مع مأساة عايدة، فتكاد الدماء تتجمد في أوصالنا خوفا وفزعا، كما لو كنا نحن تلك الأم التي تبحث عن طوق نجاة لأبنائها.


تعمل عايدة مترجمة في قاعدة الأمم المتحدة في سربرينيتشا، التي تديرها هولندا، وتؤدي دورها بإقناع كبير الممثلة الصربية جاسنا يوريتشيتش، التي تقدم الشخصية بمزيج مقنع تمامًا من الغضب والمثابرة، والجرأة وغريزة الأمومة التي لا تلين. تجد عايدة نفسها وسط واجبين ودورين، دورها مترجمة للأمم المتحدة، ذلك الدور الذي يجب أن تؤديه بحياد تام، ودورها كأم وزوجة ترى من موقعها الوظيفي أن الدمار آت لا محالة، وأن المأساة مقبلة لا مناص منها، فتحاول أن تستخدم بعض ما لها من نفوذ قليل بفعل وظيفتها للنجاة ليس بنفسها، ولكن بمن تحب، زوجها وابنيها. قد يرى البعض في عايدة بعض الأنانية والرغبة في البقاء، ولكننا نرى فيها تلك الأمومة التي ينتفي معها أي شعور آخر، تتملكها رغبة عارمة في حماية صغيريها من رعب آت، رغبة تحدوها إلى التحايل على بعض اللوائح المؤسسية، بحثا عن بارقة أمل وبعض الأمان للصغيرين.
عمل عايدة مترجمة فورية مع القوات الأممية، يجعلها تعايش أولا بأول تطورات الموقف، وتستشعر بأن الأمم المتحدة لا قبل لها على صد المأساة عن بلدتها الصغيرة، ودورها كأم وزوجة يجعل منها حلقة الوصل بين العام والخاص في تلك المأساة، بين الواجب تجاه الجميع، ومحاولة إنقاذ البلدة التي توشك على الهلاك، والرغبة الشخصية في إنقاذ من تحب. تسعى عايدة بنبل لإنقاذ بلدتها ولعب دور أكبر من دورها المحايد مترجمة، ولكن نبلها الإنساني أيضا تتخلله وتتفوق عليه أحيانا غريزتها للأمومة وسعيها لإنقاذ أسرتها.
تصل بنا زبانيتش في الفيلم في التوتر إلى أقصاه، وفي الألم إلى أقسى درجاته، تلك التي تنعصر لها قلوبنا ونذرف الدمع ونحن أمام الشاشة. ورغم الألم لا نستطيع أن نشيح بأبصارنا عن الشاشة، التي استحالت شاهدا على مأساة بلدة وأم. على مرّ الأعوام شاهدنا معارض صور فوتوغرافية وأفلاما وثائقية تصور مذبحة سربرينيتشا، ولكن زبانيتش في اقتدار تام تكسو العظام ورفات القتلى لحما ودما ينبض في العروق، لنرى بأعيننا اللحظات الأخيرة في حياة هؤلاء الذين قضوا، ومساعيهم لإنقاذ من يحبون. نرى ذلك الكابوس المظلم في سربرينيتشا وجنود ملاديتش يسيرون في المدينة الخاوية من سكانها بخيلاء المنتصر، ونرى الذعر على الوجوه المحاصرة.

تنأى زبانيتش بفيلمها عن الإغراق في تصوير الهول الجسدي للمأساة، فنحن نرى فقط من لقطة علوية بحرا من البشر يحاولون أن يجدوا مدخلا إلى بعض الحماية في مخيم الأمم المتحدة، الذي امتلأ عن آخره بالفارين من الهجوم الوشيك، ونسمع طلقات النيران عن بعد، ولكننا لا ننغمس وسط الأشلاء والدماء.

تقدم زبانيتش المولودة في سراييفو، مقاربة شخصية للغاية، وتتردد في الفيلم أصداء من فيلمها «غرابافيتشا: أرض أحلامي»، الذي فازت عنه بجائزة الدب الذهبي في برلين عام 2006، ولكن في حين ركزت في غرابافيتشا نظرتها على ما بعد الحرب، على النساء البوسنيات اللواتي اغتصبهن الصرب خلال الحرب، يقذف بنا «إلى أين تذهبين، عايدة؟» مباشرة إلى آتون الألم والخوف من اللحظة نفسها.
تنأى زبانيتش بفيلمها عن الإغراق في تصوير الهول الجسدي للمأساة، فنحن نرى فقط من لقطة علوية بحرا من البشر يحاولون أن يجدوا مدخلا إلى بعض الحماية في مخيم الأمم المتحدة، الذي امتلأ عن آخره بالفارين من الهجوم الوشيك، ونسمع طلقات النيران عن بعد، ولكننا لا ننغمس وسط الأشلاء والدماء. ولكن قوة سرد زبانيتش تكمن في التركيز على التفاصيل الدقيقة، على امرأة جاءها المخاض بينما يقتاد زوجها ليواجه الموت على يد قوات ملاديتش، حياة وموت يلتقيان، ومصير طفل صغير لا نعرف ما إذا كان سينجو من الهول المقبل. تعطينا زبانيتش تفاصيل حميمية عن ذلك الابن الوسيم الذي يود أن يصبح مغنيا وفخر أمه به، عن لحظات سعادة ماضية قبل الحرب، عن عايدة التي تصر على إحراق الصور والمذكرات التي خطها زوجها عن ذكرياته وتفاعلاته مع الحرب. ومن الجانب الآخر تصور خيلاء وزهو الجنود الغازين في جولتهم في طرقات المدينة السليبة. نرى ملاديتش يداعب طفلة وليدة على يد أمها في استعراض للتعاطف، بينما يوشك أن يقتل أباها، نراه يستعرض شهامة مدعاة ويوزع الخبز والماء على الأسر البوسنية التي تم إجلاؤها.
بعد أعوام وأعوام من المأساة تعود عايدة إلى بلدتها، إلى بيتها الذي لم يعد بيتها، تعود في محاولة لتضميد جرح لا يندمل، تعود ليست عازمة على اجترار الأحزان والآلام، ولكن بحثا عن مستقبل يتجنب أخطاء وجراح الماضي. تختتم زبانيتش الفيلم ببصيص أمل في مستقبل يتجاوز المأساة ولكن لا ينساها، مستقبل يتذكر من قضوا غدرا، ولكنه لا يخلو من ضحكات الأطفال ولعبهم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية