إلى أين يذهب المشهد السياسي التونسي؟

حجم الخط
0

هناك مفارقة عجيبة في السيناريوهات السياسية في تونس بين انتخابات معلنة في ٦ أكتوبر/تشرين أول المقبل في ظل تشظي الخارطة السياسية والحزبية وضبابية الإطار الدستوري في ما بعد الانقلاب المدني الذي أطاح بالشرعية الدستورية في البلاد صيف عام 2021، وأن تسير البلاد تحت دستور 2022 الجديد الذي رسمته سلطة الأمر الواقع وفرضه الرئيس قيس سعيد على المنافسين والحلفاء في آن واحد.
إلا أنّ الاعلان عن المحطة الانتخابية المقبلة وأعني انتخابات رئاسة الجمهورية التونسية كانت ضمن إلزامية الدستور القديم وهو دستور 2014، دستور الثورة الذي ارتضته النخبة السياسية التونسية وقبلته جميع الحساسيات السياسية والفكرية والتي قادت من خلاله الحياة السياسية بعد ثورة 2014.
كيف يمكن بالتالي في ظل هذه التناقضات أن نحكم على المشهد السياسي الحالي؟
هل نحن فعلا أمام موعد انتخابي مجسد لعرس الديمقراطية؟ أم أن الصبغة الدستورية والقانونية لهذه المحطة الانتخابية الهامة تخفي ديكورا سياسيا باهتا يبحث عن إضفاء شرعيةٍ لرئيس فاز بالانتخابات قبل بدايتها أو حتى قبل إعلان نتائجها؟
ما الذي جعل الرئيس التونسي الحالي يصل إلى سدة الحكم بشرعية دستورية واضحة وبديباجة رافضة للفساد السياسي و إجماع من الشعب التونسي، ضد منافس كان رمزا لمقت التونسيين من الفساد بكافة أشكاله وأعني هنا آخر انتخابات حرة كانت نظمت سنة 2019، حين توجه التونسيون إلى انتخاب رجل مغمور ومجهول لم يعرف عنه أي نضال أو نشاط سياسي غير المشاركة في تعديل دستور البلاد سنة 2002 حتى يبقى الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في سدة الحكم؟!.
ما الذي أوصلنا إلى هذا الانقلاب على تجربة فريدة لنموذج ديمقراطية فتية في عالم عربي يفتقدها ويفتقد تقاليدها؟
لن ننجح في سرد كل هذه الأسباب في هذا المقال ولن يشفع لنا قطعا الرجوع إلى ماضي التجربة القصيرة لديمقراطية ما بعد الثورة التونسية. هذا لن يكون مفيدا بدليل أنه منذ 25 تموز/ يوليو 2021، مرّت الكثير من السيول و المياه من تحت جسور الحياة السياسية التونسية وسقطت فيها النخب السياسية في البلاد و الاحزاب الممثلة لها إلى حجمها الطبيعي فاتضح أنها ليست إلا دكاكين سياسية صغيرة لا غير، لذا عادت إلى تقوقعها الايديولوجي و الفكري و لم ترتق في أدائها للدفاع عن تجربة الديمقراطية و هي التي كانت أول المستفيدين منها.

كانت هذه الأحزاب في صراع سياسي ولاهثة نحو شرعية حركية منافسة لخصم سياسي وليس لبناء صرح ديمقراطي دستوري تحتاجه البلاد التونسية

كانت هذه الأحزاب في صراع سياسي ولاهثة نحو شرعية حركية منافسة لخصم سياسي وليس لبناء صرح ديمقراطي دستوري تحتاجه البلاد التونسية. بعد الثورة بقي التماهي والمحاصصة الايديولوجية تجاه حركة النهضة ذات التوجه الاسلامي الديمقراطي المحافظ، ماء الحياة لأحزاب برلمان الثورة طيلة فترة 2019 إلى 2021 للأسف. وتمادت فيها هذه الاخيرة في التشويش على مسيرة المخاض الديمقراطي العسير الذي كان يحتاج إلى التثبيت في مؤسسات دستورية وسياسية لسد ثغرة الفراغ الفقهي في قراءة دستور 2014 وتفعيل مضامينه و تقييم الممارسات من قِبل من تولى الحكم منذ سنة 2014 وأعني بالمؤسسات طبعا المحكمة الدستورية التي افتقدها صانع القرار السياسي التونسي ومعه المشرع التونسي في تلك الفترة.
لم تساهم كذلك جائحة كورونا و الحرب الروسية الأوكرانية في استقرار مسيرة الديمقراطية التونسية حيث أظهرت الهشاشة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية العربية، وزادها كذلك استقالة الاحزاب الفائزة في انتخابات 2019 من تحمل مسؤولية فوزها النسبي و الذهاب إلى فرض حكومة برلمانية تتمتع بقدر نسبي من ثقة البرلمان والشعب ،وأعني بذلك حكومة الحبيب الجملي التي سقطت أو أسقطها الرئيس قيس سعيد في قراءة متعسفة و متجنية على دستور 2014، و منها دخلت الديمقراطية التونسية في مرحلة التهريج، وإن كان ذلك مفتعلا دون السقوط في منطق المؤامرة، و لكن يبدو جليا أن الفخ الذي نُصب للنخبة السياسية التونسية كان محكما في اقناع شعب لم يتشبع بعد بثقافة الديمقراطية بأن التهريج الذي أصاب البرلمان المنتخب لم يعد صالحا لقيادة البلاد خاصة أن الفترة كانت عصيبة مع تهديد جائحة كورونا للبلاد.
جاء انقلاب الرئيس قيس سعيد مبعثِرا لكل الأوراق ومقوِضا لما بنته النخبة السياسية التونسية بعد الثورة، أغلق فيها البرلمان بدبابة وانتهى بوضع قيادات حزبية ورئيس البرلمان المنتخب في السجن، وعودةٍ لمصادرة الرأي المخالف في إعادةٍ لسيناريوهات سنوات الرصاص في تونس.
يبدو واضحا بعد ثلاث سنوات من هذا الانقلاب أنه مشهد سريالي تونسي أرجعنا إلى وراء الوراء.
أعود لسؤالي الأول في استقراءٍ لمستقبل المشهد السياسي التونسي في الفترة المقبلة وأراه مرتبطا بشكل الانتخابات المقبلة ومعيار الحرية والشفافية فيها وهذا يعني أن الديمقراطية لا تنتعش إلا في مناخ علوية القانون وحيادية مؤسسات الدولة والإدارة. كل هذه العناصر تبدو الآن غير متوفرة في المشهد السياسي الحالي في تونس، فالتصفية الادارية والسياسية التي تعرّض لها البعض من المترشحين للانتخابات الرئاسية ،وطبعا فإن استمرار هذا الوضع لا يمكن أن يفعّل مَلَكة التغيير لدى التونسيين الذين ضاقوا ذرعا من شعبوية الرئيس قيس سعيد. هذا مؤشر مهم في المشهد الحالي و لكنه غير كاف لحلحلة الوضع القائم ويبدو كذلك أن الساحة السياسية التونسية وإن ضُربت فيها الاحزاب السياسية و أكبرها إلا أن عطش التونسيين للحرية بكافة صيغها المدنية والسياسية لم يُغلق فيها نهائيا مكتسباتِ الحريات في عشرية التحول الديمقراطي ، ولكنّ محاذير التصفية الكاملة لهذه الحريات تبقى واردة إن غاب وعزف التونسيين عن حقهم في المشاركة الفعلية في الانتخابات الرئاسية القادمة بأعداد وفيرة تعطي مؤشرا للسلطة السياسية الحالية أن استسلام الجسم المواطني والمدني و الحقوقي التونسي ليس واردا أن يختفي غدا.

ناشط سياسي وحقوقي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية