لقد عاش الجزائري مسافراً، في الداخل والخارج، مقيماً ومغترباً في آن، لا يستأنس بالمكان إلا ليهجره، الترحال صفة خصوصية في هويته، لكن نادراً ما انشغل بتدوين رحلاته، مكتفياً بدسها في داخله، يتعاطاها مع نفسه، ولا يشرك الآخرين في المسافات التي قطعها، قد يحصل أن يرويها شفوياً، أو يستخلص منها سقط متاع، أو يذكر ما شابها من نوادر ومواقف وطُرف، لكن لا يدونها كاملة كتابة، فالجزائري تعود أن يكتب عن غيره لا عن نفسه، يتلصص على حيوات الغير ويطمر حياته، فلا تصل إليها الأعين ولا يبلغ شيء منها الآذان، لا بد أن كل واحد من الكتاب قد عاش رحلة، مهما طالت مدتها أو قصرت، وبغض النظر عن اتجاهها، ولو قرر نصف الكتّاب تسويد الورق برحلاتهم، لتوصلنا إلى مكتبة مكتملة.
في هذا الجو من الكتمان والتستر على الحياة الفردية، يصير كتاب يحمل توصيف رحلات حدثاً في الجزائر، لاسيما أنه كتاب يتجه جنوباً، في دول الساحل الافريقي، لصاحبه الصديق حاج أحمد (1967) جاء بعنوان «رحلاتي لبلاد السافانا» (منشورات الوطن اليوم 2019) الذي تضمن ما اصطلح عليها المؤلف «رحلات» في دول النيجر ومالي والسودان، وهي منطقة سميت كلها ـ قديما ـ السودان، ونعتها آخرون ﺑ»نيغريت».
كانت الجزائر، من منتصف القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، أرضاً مستباحة لرحالة غربيين، بعض منهم جاء في مهمات اسكتشافية، وكثيرون وصلوا إليها تحت الطلب، دونوا رحلاتهم، التي سوف تقيد ـ في ما بعد ـ في سجلات سياسية، استفادت منها الإدارة الاستعمارية، وظل الجزائري ـ ولن نُبالغ إذا قلنا إلى حد الساعة ـ ينظر إلى مواطنه بعيون الرحالة الأجانب، الذين كرسوا كليشيهات لا تزال مستمرة، فالتوصيفات التي ألصقت ببعض القبائل في جنوب البلاد لا تزال متداولة، ونظرتهم الدونية للأمازيغ في شمال الجزائر لا تزال مقياساً في تعامل بقية الجزائريين مع الأمازيغ، لم نهدم تلك الأحكام المسبقة، وبقينا محافظين على البنية الكولونيالية في النظر إلى بعضنا بعضاً، الناس لا يُجاهرون بتلك الأحكام المسبقة، لكنهم لم يتخلصوا منها في لاوعيهم، من هنا تأتي أهمية كتاب الصديق حاج أحمد، فهو قبل أن يتجه إلى النيجر ومالي والسودان، يصف الحال في صحراء الجزائر، في بقاع نسمع عنها ولا نعرف عنها سوى القليل، فصحراء الجزائر هي تلك البقعة الشاسعة التي نراها في الخريطة ولا يصلنا شيء عنها في نشرات الأخبار، وحين يرد اسمها ـ صدفة ـ في نشرات الأحوال الجوية، فإن المذيعين يكتفون بتسميتها «بقية الوطن» بدون تفصيل، حتى يخيل للمستمع أن «بقية الوطن» هذا هو أرض بلا بشر، لكن المؤلف، بحكم منبته من تلك المنطقة، يُحيلنا على الجزء المظلم منها، عن قسوة العيش فيها، ليس لأسباب مناخية، بل في ندرة سبل العيش الكريم، ذلك ما يقف عليه القارئ في رحلة حاج أحمد إلى كيدال، شمال مالي، وما رافقها من مشقة في إيجاد وسيلة نقل، ضف إلى ذلك صعوبة المسالك، في غالبيتها مهترئة أو غير معبدة، مع ذلك نشعر، من خلال حكاياته، أن الناس مصرين على الحياة، وعلى ابتكار أسباب فرح لهم، غير مبالين بما يُحيط بهم من عبث وفوضى منظمة، من مافيا التهريب، واستفحال سوق الرشوة، من بعد المسافة عن الجزائر العاصمة، في بلد لم يتخل عن مركزية الحكم، التي تتجاوز في أحسن الحالات ألف كيلومتر، عن تخلي الحكومة ـ بالمختصر ـ عن الالتزام بواجباتها، ما حتم على ناس المنطقة الذي تنعت ﺑ»بقية الوطن»، أن يتكلوا على أنفسهم، ولا ينتظرون هبات من أحد.
إن كتاب «رحلاتي لبلاد السافانا» قد يُفيد القارئ في تخصصات أخرى غير أدب الرحلة، في مقارنة الأديان مثلاً، وفهم البعد الصوفي في النيجر ومالي، الذي ركز عليه المؤلف.
في نيامي، عاصمة النيجر، يتعرف القارئ على صحبة المؤلف ورفاقه هناك، يسير معه في شوارع المدينة، وعلى الرغم من فقرها فإنها تتشبث بحقها في الصبر وقليل من المباهج، يحضر ولائم تشوى فيها نوق، ويظهر لمن لا يعرف ذلك البلد، أن أناسه طبقتان متباعدتان، بين من لا يملك قوته، ومن يعيش في رخاء تام، وشيئاً فشيئاً نعرف أن التفرقة ليس سببها المال وحده، بل اللغة أيضاً، حين يُصارحه أحدهم عن «غبن المعربين بالنيجر في الوظيفة مقارنة بالفرنكفونيين». ومع أن النص جاء في كتابة تقريرية، فقد تماهى في مرات مع أسلوب الرحالة القدامى، كتب الصديق حاج أحمد نصه كما لو أنه يُجالس القارئ، يدون كما لو أنه يُخاطبه شفاهياً، لكن ما قد يتعثر به القارئ في تتبع صفحات «رحلاتي لبلاد السافانا» أن المؤلف، في أكثر من موضع، يحيل القارئ على رواية سابقة له، بعنوان «كاماراد»، بحيث يكاد يشعر بأن قراءة كتاب الرحلة لا تتم سوى بالعودة إلى الكتاب السابق، وهو أمر كان بإمكان المؤلف الترفع عنه، فلكل كتاب قارئ مختلف، وليس القارئ مطالباً بمراجع لفهم كتاب أخرى، صدر باعتباره نصاً إبداعياً مستقلاً عن البقية.
في الفصل الثاني من الكتاب، في رحلته إلى مالي، يتفاوت أسلوب الكتابة، يتخلى الكاتب عن ضمير المتكلم مفضلا ضمير الغائب، وتلك الرحلة نظن أهميتها في أنها رحلة في صحراء الجزائر أولاً، في توصيف معاناته في الوصول إلى مقصده، من صعوبة المنطقة التي يعيش فيها، ضف إلى ذلك أنه لم يقم في مالي وقتاً أرحب لتلمس ما خفي منها، فكانت أقرب إلى زيارة خاطفة منها إلى رحلة مكتملة.
رواية «كاماراد»، التي ورد ذكرها، في «رحلاتي لبلاد السافانا»، ستكون سبباً في سفرية الكاتب إلى الخرطوم، مشاركاً في لقاء أكاديمي، مع زيارة على عجل إلى معرض الكتاب هناك، ولقاءات مع كتاب وشعراء من البلد ذاته، ثم تجوال قصير في المدينة، لتنتهي رحلاته في الدول الثلاث، التي كانت تسمى قديماً «السودان» ـ قبل أن ينحصر الاسم على السودان، الذي نعرفه اليوم ـ شرقاً وغرباً.
إن كتاب «رحلاتي لبلاد السافانا» قد يُفيد القارئ في تخصصات أخرى غير أدب الرحلة، في مقارنة الأديان مثلاً، وفهم البعد الصوفي في النيجر ومالي، الذي ركز عليه المؤلف، إن هذا الكتاب يحيلنا أيضاً إلى «إشكالية» إطلاق كلمة «أدب الرحلة»، هذا المصطلح الشامل، الذي تتوارى خلفه تصنيفات أخرى، أهمها اليوميات، التي نعتقد أن «رحلاتي لبلاد السافانا» أقرب إليها.
٭ كاتب من الجزائر
لكن ما هو البعد الصوفي في النيجر ومالي ؟
مقال متعدد الاهتمامات .