عاش لبنان طبعاً أسبوعاً عصيباً أنتقلت فيه التوترات الأمنية والحرب الأهلية المعلنة سلفاً من منطقة لأخرى. فجأة قامت جماعة الشيخ أحمد الأسير بتصفية عددٍ من ضباط وجنود الجيش اللبناني في مدينة صيدا الجنوبية فاشتعلت المعارك العنيفة وانتقل التوتر وقطع الطرقات وحرق الإطارات الى مدن وبلدات أخرى وبدا الوضع متجها دون أدنى شك إلى الإشتعال الأهلي الشامل..
في عزّ هذا الجو المأزوم وحروب الطوائف التي طال الإعلان عنها وبينما كانت الدوائر العربية والدولية تتصل، بعضها لتسقط الأخبار وبعضها للتأثير فيها، كانت ضاحية بيروت الجنوبية تشهد هي أيضاً معارك بكل أنواع الأسلحة، الخفيف منها طبعاً، والثقيل أيضاً. قذائف صاروخية وغير صاروخية كذلك. لا أخفيكم أن الحرب الأولى في صيدا قد غطّت على الثانية ومن بعيد. ركّز الإعلام تغطيته على حرب صيدا نظراً لأهميتها السياسية ونوعية الأطراف المشكّلة لها.
غير أن حرب الضاحية الصغيرة التي لم تنل شرف اهتمام الإعلام بها شدّت انتباهي أنا شخصيّاً أكثر من الأولى. ليس لأن حرب صيدا لا تستحق الإهتمام والقلق على مصير البلاد والعباد. لا أبداً. إلا أن الحرب الصغيرة في حي الليلكي على ما أظن كانت رحاها تدور بين عائلتين حول قضية لم تثر إهتمامي أصلاً فلم أحفظها. فعلى ماذا يمكن أن تنشب الحرب بين عائلتين في حي من أحياء الضاحية؟ على امتلاك السلاح النووي ربما؟ أم على السيطرة على النفط أو الغاز؟
استوقفتني حرب الضاحية الصغيرة بالواقع لأسباب كثيرة. ليس أهمها التوقيت إذ كانت تجري في ذات الوقت الذي كانت تدور فيه الحرب الـ ‘كبرى’ في المدينة الجنوبية. وليس لأن رهانات الحرب العائلية لا يمكن ان ترتقي إلى مستوى رهانات شقيقتها الكبرى لا بتفاصيلها ولا بنتائجها طبعاً. وليس لأن أسبابها، مهما تكن جليلة، لم تصل الى درجة ثني كل من العائلتين، أو الأصح الجناح العسكري لكل منهما، عن متابعة النزاع خوفاً مما كان يشاع عن بدء الصراع الأهلي الشامل في البلد.
كل ما تقدم مهم بدون أدنى شك. لكن ما استوقفني فعلا في حرب العائلتين هو شيء لا علاقة لهما به مباشرة. فقبل اسبوع عقد في بيروت لقاءٌ ضم عدداً من أهم الشخصيات والكفاءات في لبنان بالإضافة إلى أحزاب وجمعيات ناشطة من أجل المبادرة إلى إنقاذ لبنان ووأد الفتنة ومن أجل إعادة تأسيس الدولة. ورحت أفكر في العلاقة التي يمكن ان تجمع بين حرب العائلتين في الليلكي وبين هذا اللقاء التأسيسي لدولة جديدة. لا يمكن المرء ان يمرّ مرور الكرام على هذا الجمع وفيه ما فيه من المناضلين والمفكرين والساسة جلّهم لا غبار على سلوكه الشخصي. أن يجتمعوا فجأة سوية حول التغيير الممكن في لبنان معناه انهم متفقون على التشخيص والعلاج وإلا لما كان يمكن اصلاً ان يجتمعوا.
النوايا إذن طيبة والاشخاص ذاتهم مخلصون. تصفحت الوثائق الصادرة عن هذا اللقاء المهم والواعد بشكل دقيق. وحاولت ان أجد رابطاً ما يلمّ ما بينهم وما بين العائلتين المتخاصمتين بالمدافع في احد ازقة بيروت. أقول ذلك لسبب وجيه يتمثل في تأكيد الوثيقة الصادرة عن هذا اللقاء أنها تأمل بالتوصل إلى ‘جمع كل القوى الشعبية الحريصة على البلد’.
حسناً سؤالي هنا وهل تلك العائلات التي تتقاتل بعنف وتدمر احياءها ومتاجرها ومساكنها وتودي بعدد لا بأس به من الناس، مقاتلين وغير مقاتلين، هل يتوجه البيان إليهم بصفتهم معنيين ‘ بالقوى الشعبية الحريصة على البلد’؟ ما من شك أن تلك العائلات تنتمي بمعظمها الى الفئات الشعبية التي لها مصلحة أكيدة مبدئياً بالتغيير. لكن الناس التي تدافع كـ’عائلة’ عن عائلتها وتدمر الحي لأسباب قد تكون نافلة من أجل مواجهة ‘عائلة’ أخرى لن تكون مهتمة كثيراً بالتخلي عن التدمير من أجل تأسيس الدولة.
لكل هدف سياسي كما يعرف الجميع طبعاً أدوات تصنعه. والتغيير يحتاج إلى أدوات تجعله ممكناً فعلاً. أدوات التغيير السياسي عادة تكون مجموعات من الشعب لها مصلحة فيه. ولكي نصل الى تحديدها لا بد من قراءة الواقع المعيوش للناس واستخلاص هيكلية التجمعات البشرية وأسسه. لكن أهل الإنقاذ في لبنان لم يعيّنوا لنا في وثيقتهم بدقة ووضوح القوى الإجتماعية صاحبة المصلحة بإسقاط النظام الطائفي ‘المتهاوي’. اكتفوا بمصطلح هو من العمومية بحيث يصلح لأي كان وإلى لا أحد في الوقت ذاته. ف’القوى الشعبية الحريصة على البلد’ قد نجدها بين الذين اعتدوا على الجيش والدولة في صيدا كما بين العائلتين المتقاتلتين في الضاحية.
وإذا نعم فكيف يمكن إقناعهم بأن لهم مصلحة في إنتماء أرقى من ذلك الذي يصرّون على الحفاظ عليه رغم حقن التوعية التي حصلوا عليها في السابق؟ يبدو لي أن الناس المفعمة بالنوايا الطيبة والذين يتوجهون إلى الناس، كل الناس، أو إلى الشعب، كل الشعب، من اجل التغيير ربما تعوزهم احياناً حلقة ناقصة تسبق نزعتهم إلى الإصلاح. هذه الحلقة الناقصة هي علّة عربيّة شاملة وليست مرضاً لبنانياً صرفاً. فالكل متعجّل في إسقاط النظام ولا يعرف القوى المعتملة في المجتمع التي سوف تكون أدوات هذا الإسقاط. ناهيك عن أن معرفة هذه القوى هي شرطٌ يعيننا على معرفة مصلحتها وأهدافها والوجهة التي يحلمون بالسير إليها.
نسير على غير هدى. وحين يكون النظام ‘متهاوياً’ ونلتقي بالعائلات والطوائف تتقاتل في طريقنا نتفاجأ بنسيج مجتمعنا المتشظي الذي لا يصلح كآداة للتغيير، تغييرنا. فنعود أدراجنا كالعادة لكن إلى أين؟