من سوريا إلى الكويت أما بعد:
خالتي كماشة: وُدعِتُ من مطار دمشق بما يشبه الرفسة والبصقة على إثري، في حين اعتقدتُ واهماً بأنيّ أخفّفُ عن الدولة، وسأضيف إلى ميزانيتها، أو لنقل إلى جيب ناهبيها الذين اعتادوا جباية ما يترتب علينا مقابل استعبادهم لنا، ليست هي المخابرات الجوية فقط من يفعلُ هذا، بل بقدرة قادر يتحوّل الموظفون جميعهم إلى مخابرات جوية وبرية وبحرية، ولهذا لم أدخل بلدكِ الغني بالنفط و(شوفة الحال) المفرطةِ بكرامة تامةٍ، فارداً صدري إلى الأمام ورأسي مرفوعا، ومن خبطتي على الأرض ينزّ الماء، طبقاً لتعاليم العسكرية، بل دخلتهُ أقرب حالاً إلى عصفور مبللٍ، وهو ما تلقفته موظفة المطار الكويتية، وازدرتني بنظرة، تحايلت عليها بابتسامة بلهاء:» ما الغرض من زيارتك؟» قالت، قلت:» زيارة»، قالت وهي تسحب انتباه زميل لها:» كلهم بيكولون زيارة وبعدين بيبلطوا»، بعد أمتار ليست كثيرة كان في انتظاري أخي الأكبر، العسكري في الجيش الكويتي منذ 40 سنة، وأقرباء كويتيون أبا عن جد و(بدون) أجدادهم من مواليد أرض صارت تسمى الكويت!
نعم صدقت يا أمّ سوزان إذ قلتِ: «دولهم ماتبيهم» فقط اعتراضي هنا على مفردةِ» دولة» والأصّح القول: عصاباتهم، أو كما سماها عبد اللة العروي: «المنظمات».
كذبةٌ اسمها العروبة:
أنا من جيل نهاية الدولة المدنية في سوريا، تحديداً أنتمي إلى» الحركة التصحيحية» ممثلةً بحافظ الأسد، سارقُ حصص طعام زملائه من الضباط حين كان ضابطاً صغيراً، وسارقاً للجبهة، حين كان وزيراً للدفاع، ومن ثمّ سارقاً لسوريا باسم «التصحيح»، تربيتُ على مقولات غليظة وجسيمة مثل «أمةٌ عربيةٌ واحدةٌ/ ذات رسالة خالدة»، و«إذا أنّ جريحٌ في العراق، لمس الشرقُ جوانبهُ»، لا أدري هل عنى الشاعر آنذاكَ بالشرق الشرج أو الشرخ أم كليهما، وهو ما تأكدَ لي بأنَّ لا عروبة ولا هم يحزنون، وكلنا «محمد» كوافدين ولا فرق بين بنغالي أو مصري أو سوري» إلّا بالتقوى»، وهزّ الرأس بالموافقة:» حاضر بابا، حاضر ماما».
لا نختلف عنكم بشيء يا أمّ سوزان، بالمناسبة لديّ أخت (بدون) وتشبهكِ، وربّما لا تشبهك، لكنّ إذا أحببتَ شخصاً تشبهه بالأقرب إليك. في جمهورياتنا الخير وفير، وإذا كان لديكم النفط في الممالك والمشايخ والإمارات، فلدينا الكثير الذي نباهي به من الثروات، لكنّ عندكم، لديهم بعض الإنسانية أخذوا وأعطوكم، وعندنا أخذوا وأخذوا أرواحنا لنسكت، ونهتفَ: «إلى الأبد»، ولم تدم هذه الأبدُ لا لنا ولا لهم، فبعد أن كنا نجوعُ ونعرى ونحفى ونتغرب لنحافظ على بعض كرامتنا، صرنا بلا مأوى حالنا حال الكثيرين، حالكم بعد غزوة صدام حسين، نعم صرنا أكثر إنسانية وأكثر عاطفة، ولعلّ هذا ما جعلنا أكثر حساسية تجاه مداخلتك النارية مطالبة» بكطّ» هؤلاء «العاهات» في الصحراء، هللويا سيدتي، صدقت العالم كلّه يتجهُ إلى التماشي مع فكرة «البقاء للأصلح»، دعوتك لا تختلفُ عن دعوة الشاعر طلال السعيد الساذجة قبل سنوات، عقب مطالبة بعضُ المعلمين بتحسين أوضاعهم، نظراً لخدمتهم الطويلة وخبرتهم في التعليم، قال بما معناه مخاطباً الوزيرة موضي الحمود: «أطرديهم وحنا حزامج، ونجيب طلاب الثانوية يدّرِسون المواد النظرية، ومو ضروري عيالنا يتعلمون الرياضيات والعلوم»!
خالتي كماشة تأذيتِ لأنّ سعر «خيشة البصل» زادَ عن حدّه، بينما في طفولتي كانت جدتي توزّع علينا بصرامة حصتنا اليومية من الخبز في منزل ضمّ عدةَ أسرٍ ويتامى، كنتُ أحدهم، تصوري أن تكون قطعة خبزٍ أكبر ترفاً، في كلّ الأحوال تقلّصت معدنا، وتعايشنا مع الجوع بوصفهِ كائناً من أفراد العائلة.
أمنية شخصية وشخصيتان:
تصادقتُ مع مثقفين كويتيين وبدون ووافدين، كانت المسافة تنتفي بينهم، ولا سواتر عالية تفصلهم عن بعضهم، ووجدتني بينهم واحداً منهم، أشاركهم حبّ هذا البلد، الذي تمنيت لو أنّ حالة التعالي فيه تذهب إلى تهذيب النفس، لا إلى رؤية الآخر من زاوية «الخادم»، وهو الذي يقومُ بما يترتب عليه، وإن كان مقابلَ المال، إلّا أنّه يؤديه بحب، ويؤدي ما يترفّع عنه كثير من المواطنين الذين اعتادوا السهر ليلاً والنوم نهارا. أحدُ الشخصيات الذي تمنيت التعرّف عليها، قال لي: «هذا الذي تراه، لم يكن قبل 1995، انوجدت فورة في بنية المجتمع الكويتي، جعلته يعيش مظلومية خاصة إلى جانب الرخاء المادي، والكويتي بعد هذا التاريخ ليس هو الذي قبلهُ».
أيتها الخالة العزيزة، أتفهّمُ جيداً أن ينظر طبيب العيون السوري الأعمى إلينا كجراثيم «وقائد الفاتح من أيلول» يرى أهلهُ جرذاناً، والعفاش يسألهم: «من أنتم» لكن لا أتصور من ارتبطت ذاكرتي بإجادته لفنهِ وعشقتُ إنسانيتهُ الواضحة كخلفية للشخصية الحقيقية، كما لو قرأت ما لم تظهرهُ السطور، كنتِ إحدى الشخصيتين اللتين تمنيت التعرّف إليهما حين وجودي في بلدكم، إلى جانب كاتب وإنسانٍ تعرفتهُ ووجدتُ تصالحاً في شخصهِ بين كتابته وإنسانيتهِ الطافحة إنّهُ المرحوم إسماعيل فهد إسماعيل، نجح بن فهد من حيث خانتكِ روحك يا ابنة الفهد!
بين هنا وهناك:
خالتي كماشة: لقد (كنسلتُ) إقامتي في الكويت وكنتُ أحببتها بعد مشادة مع موظفة في الهجرة والجوازات بالفروانية، استكثرت السيدة المحترمة أن أناقشها، بقولها «فوك ما هو بسوري يتكلم بعد»، لا أريد أن أقول ما رددتُ به عليها حرصاً على مشاعركِ ونفسيتك في زمن كورونا، كذلك سأذكّر بالمقابل بمشاجرة حصلت بين ضابط بحرية أمريكي مخمور وشرطة في سوق شرك، اقتضى «البروتوكول» أن يقدّم اعتذارا للأمريكي المعتدي، في حين تمت مطالبتي بالاعتذار، من موظفةِ الهجرة المعتدية عليّ وعلى زوجتي وبلدي.
اليوم في البلد الأوروبي الذي أعيش فيه، تخرجُ دعوات من نازيين ويمين متطرف، ومعتوهين ومرضى نفسيين، وفي التظاهرات التي يدعو إليها هؤلاء ويستجيب لها المئات، يخرجُ بالألاف منددين بها وضدها، وفي هذا الوقت حتى هؤلاء الشاذين عن القاعدة، التزموا الصمت أو تعايشوا مع فكرة «هذا مو وقتو»، وسأزيدكُ سيدتي قضايا كثيرة رفعها لاجئون ضدّ التنمر وربحوها، لا أشكّك بقضاء الكويت وديمقراطيته، غير أني أعجبُ من بلدٍ عريق ومختلف عن بلدان العصا العسكرية العربية، مازال يتعامل مع البدون كقنبلة موقوتة، ولا يزيل صاعقها بتجنيسهم كحقٍ مشروع ولا تشوبه شائبة، كنتُ أعجب حقاً أول ما دخلتُ الكويت وتصورته علبة زجاجية، إلى أنْ مررتُ بالصليبية وجليب الشيوخ، لأرى أن الأمر لم يختلف عليّ خلال رحلتي، إذ مررت بحي الجماسة في حارة الطي القامشلاوية، وأطراف حي القدم في دمشق، حيثُ مجاري الصرف الصحي والزبالة التي تفيض بها الحاويات!
خانك التعبير والوقت، وكلمةٌ من علامة فارقة كحياة الفهد، تحيلنا كسوريين، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مقولات أطلقها مفكرون ليس آخرهم أدونيس، الذي يرى ثورة العمائم في إيران ثورة، ولا يرى ثورة أهلهِ على نظامٍ عصاباتي ثورة، مقولات هذه العلامات، وأنت منهم، لربّما في حالتك هي زلّة لسان، أو نتيجة قهر متراكم، إلّا أنها خروج صارخٌ عن السكّة، سيتركُ المجالَ» لفاركونات» أخر بالسيرِ على هذه» السّنة» غير الحسنة.
خالتي قماشة: سأنهي رسالتي بما أنهى حكيم، كتب رسالة طويلة جداً إلى صديقه، وذيّلها بالملاحظة التالية: لم أجد الوقت الكافي لأكتب لك رسالة قصيرة.
كاتب سوري
عوالم هذا الكاتب ساحرة… ليت رسالته طالت أكثر.
رسالة ف الصميم