على امتداد تاريخها العريق، متعدد الحضارات والممالك والأعراق والثقافات والمعتقدات، حفلت سوريا بانفرادات شتى في ميادين مختلفة؛ لعلّ بين أكثرها ألقاً أنها بلد الأبجدية الأوغاريتية، الأكمل والأقدم في التاريخ البشري؛ وأشدّها دموية ابتكار نظام بشار الأسد سلاح تدمير شامل بدائي وحشي اسمه البرميل المتفجر، أسقط منه الآلاف على المدنيين العزّل؛ وأكثرها مدعاة للحزن أنّ دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، هي اليوم الأسوأ من حيث المعيشة، في مستويات الاستقرار والرعاية الصحية والثقافة والبيئة والتعليم والبنى التحتية، حسب مؤشر الـ«إيكونوميست» للعام 2019,
الأحدث عهداً في هذا السجلّ السوري أنّ الطفلة سما، ابنة وعد وحمزة الخطيب وإحدى شخصيات الشريط التسجيلي «إلى سما»، إخراج وعد الخطيب وإدوارد وتس؛ سوف تكون أصغر مشارك في حفل توزيع جوائز الأوسكار للعام 2020، مساء اليوم. وقبل أيام سجّل الشريط رقماً قياسياً، فنياً وجمالياً هذه المرّة، إذْ صار الوثائقي الأكثر ترشيحاً للجوائز في تاريخ الـ«بافتا»، جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون، فبلغت ترشيحاته أربعة: شريط متميز بريطاني، شريط متميز أوّل من بريطاني كاتب أو مخرج أو منتج، أفضل شريط بغير اللغة الإنكليزية، وأفضل وثائقي. وفي مهرجان كان الشهير نال الشريط جائزة «العين الذهبية» لأفضل وثائقي، وحظي بعد انتهاء العرض بالتصفيق وقوفاً طوال ستّ دقائق. «هذه شهادة على قوّة الهامشيّ في الحياة اليومية، واندساسه في شروخ عماء الحرب. وهذا عمل فريد، فوريّ الأثر والتأثير، يستخدم في آن معاً العذوبة والغضب لاقتياد النظرة نحو ما لا نرغب في مشاهدته»، كتب توما سوتينيل في صحيفة |لوموند» الفرنسية.
امتياز «إلى سما» أنه، بالفعل، يسير على محكّ تسجيلي سردي بالغ المحاذير وطافح بالمغريات في آن معاً، يقارب العاديّ والمألوف والآدميّ المحض، من قلب معادلة تراجيدية شاقة بقدر ما هي مجزية
كذلك نال الشريط جوائز أخرى هامة، بينها أفضل وثائقي في مهرجان هارتلاند، وجائزة التحكيم الخاصة في مهرجان SXSW، وجائزة الجمهور في شيفيلد ونانتكيت ولايتهاوس وبيوغرافيلم، وجائزة التحكيم الكبرى فيAsian Pacific، وأفضل وثائقي في دوربان، والجائزة الكبرى في ترافيرس سيتي… خمسة نجوم هي الحصيلة التقييمية للشريط في الصحف البريطانية التالية: «تايمز»، «دايلي تلغراف»، «إيفننغ ستاندارد»، «فايننشيال تايمز»، «إندبندنت»، «مترو»، «فيلم نيوز»، و«غارديان»؛ وفي هذه الأخيرة كتب مايك ماكاهيل أنّ الأهوال التي يسجلها الشريط كانت تجازف بإحداث فرط العاطفة المحضة، غير أنّ «الأطفال المارّين أمام العدسة، المصابين بالذعر، وبالندوب غالباً، سوف يُبلغون أنّ سوريا ليست مكاناً للإفراط العاطفي. حتى سما، الطفلة مغمضة العينين، تبدو وكأنها تعيش على زمن مستعار».
وفي يقيني شخصياً، لعلّ عبقرية «إلى سما» تبدأ من هاهنا تحديداً، أو هذه هي نقطة الانطلاق الكبرى في تثبيت خصوصيات الشريط العديدة، المتشابكة والمتكاملة: الفنية، التي تخصّ السينما التسجيلية، امتيازاتها ومخاطرها، محاسنها ومزالقها؛ ثمّ تلك الأخلاقية والشعورية والإنسانية، حيث السراط الشائك، غير المستقيم، كثير التعرّج، ولكن البهيّ دائماً، بين تدوين الحقيقة الفعلية (كما يتوجب على التسجيل)، واستثمار معطياتها في الدرس التوثيقي، من دون انزلاق نحو انحياز غير أمين، أو إخلال عن سابق قصد تزييفي. في عبارة أخرى، باتت كثيرة الأعمال الوثائقية التي عكفت على تسجيل الواقع السوري بعد انتفاضة 2011، من زوايا مختلفة صادقة الالتقاط وجبّارة التدوين؛ أو انطلاقاً من أجندات مسبقة، تنميطية أو ميلودرامية أو حتى استشراقية إكزوتيكية. امتياز «إلى سما» أنه، بالفعل، يسير على محكّ تسجيلي سردي بالغ المحاذير وطافح بالمغريات في آن معاً، يقارب العاديّ والمألوف والآدميّ المحض، من قلب معادلة تراجيدية شاقة بقدر ما هي مجزية: أنه يُدرج عذوبة الحبّ، وغبطة الأمومة، وبهجة الصداقة، وتضامن أبناء المحنة الواحدة؛ ويرشقها، من دون زخرف أو نفخ أو تضخيم أو إسفاف، على خلفية من حلقات موت محتم مفتوح، أو مشاريع استشهاد وشيكة في أية برهة كما يصحّ القول.
وفي حدود ما أعرف شخصياً، وبعد شريط أسامة محمد الرائد « ماء الفضة» تحديداً، فإنّ «إلى سما» هو المحاولة السورية الثانية الأنجح على درب ما صارت فنون السينما التسجيلية تثمّنه تحت مسمّى الـ Docufiction؛ حيث التقاطع وثيق، ودقيق محسوب بميزان الذهب، بين التوثيق والسرد، وبين شاشة أولى تلتقط الواقع وتنقل الفعليّ؛ وشاشة أخرى ضمنية تحكي خيطاً قصصياً هنا، أو ترسم شخصية راوية أو حتى روائية هناك. اشتغال التسجيل يبدأ من هاتف وعد المحمول، خلال أولى مظاهرات جامعة حلب سنة 2012، لكنه ينتقل إلى مشاهد فائقة التنفيذ، متوازنة في التنويع بين همجية القصف وقوّة البقاء، وبين علاج الضحايا والاحتفاء بالأحياء، وبين العرس والفجيعة، وكيس رزّ مليء بالديدان ينتهي حول وجبة عائلية دافئة. وأمّا اشتغال السرد فإنه أقرب إلى حياكة معلَنة لنسيج مرئي لتوّه، يتعاقب على صناعته كلّ مشارك في كلّ مشهد، ويستوي أن يكون الفتى الذي يودّع أخاه الأصغر الشهيد، أو عفراء التي تطبخ وتضمد وتمازح، أو طفلها الذي يغالب الدموع وهو يرجح سبب بقائه في حلب، أو حمزة الطبيب الذي يعالج ويعشق ويربّي…
ليس «إلى سما» انعكاس مرآة في مرآة، كما يُقال عادة عند توصيف العلاقة بين التوثيق والميديا الرقمية؛ بل هو احتشاد بليغ الرسالة ورفيع الأدوات لأفضل ما يمكن للسينما التسجيلية أن تقترحه في تكريم الضحية، وتبيان المأساة، وإحقاق التاريخ.
تجرأنا على الحلم و لن نندم على الكرامة …
إنه شريط تسجيلي لأكبر مأساة في تاريخ سورية والبشرية. إنه وثيقة ثانية لبربرية المجرم ابن المجرم بشارون الكيماوي وصنوه بوتين بعد صور قيصر لعشرات الالاف الذين ماتوا تحت آلة التعذيب الاسدية. الى سما هو وثيقة تاريخية لمأساة حلب مدينة المتنبي وسيف الدولة وآخر مدينة في طريق الحرير. بالامس جاء برابرة بشارون لينبشوا القبور في ادلب بعد ان قتلوا الأبرياء
تابع
هؤلاء البرابرة لا يعرفون حضارة ولا ثقافة هنا في قلعة حلب الشامخة كان المتنبي يصدح، وابو الفراس يناكف، هؤلاء لا يعرفون من هو أبو العلاء ولا ابو تمام ولا القباني الذي قتلوا بلقيسه وقالها نحنُ .. يا بلقيسُ ..
ندخُلُ مرةً أُخرى لعصرِ الجاهليَّةْ ..
ها نحنُ ندخُلُ في التَوَحُّشِ ..
والتخلّفِ .. والبشاعةِ .. والوَضَاعةِ ..
ندخُلُ مرةً أُخرى .. عُصُورَ البربريَّةْ ..
حيثُ الكتابةُ رِحْلَةٌ
بينِ الشَّظيّةِ .. والشَّظيَّةْ
حيثُ اغتيالُ فراشةٍ في حقلِهَا ..
صارَ القضيَّةْ ..
حلب القضية، حلب الفراشة، حلب القدود الحلبية،
شكرا لك
[1]
/لعلّ بين أكثرها ألقا أنها بلد الأبجدية الأوغاريتية، الأكمل والأقدم في التاريخ البشري […] وأكثرها مدعاة للحزن أنّ دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في هذا التاريخ/..
ولا تنس, في هذا السياق يا أخ صبحي حديدي، أن هناك نوعا من العنصرية من طرف الكثير من العرب في الغرب، أسميه بـ”العنصرية التاريخوية”، وعلى الأخص من طرف الكثير من العراقيات والعراقيين في هذا الغرب /وهم يروّجون فكرة أن بلاد العراق هي “مهد الحضارات” أو “المهد الأول للتاريخ البشري”/، على سبيل المثال لا الحصر..
[يتبع]
ننتظر بفارغ الصبر الجزء [2] من تعليق آصال أبسال المهم !؟
فعلا أخت آصال أبسال أؤيد كلامك بشدة أختنا الكريمة ، !!؟
سلمت بهذا الكلام الأخت آصال أبسال ؛ آني من بغداد وأؤيدك فيما تقولين مئة بالمئة ،
كل المختصين من مؤرخين وعلماء آثار يؤكدون أن الحياة البشرية بدأت في بلاد الشام ، وبعدها انتشرت حضاراتها من هناك ؟؟!!