لا أعرف كاتبا تجريبيا مثل الراحل إلياس خوري. فقد افتتح موسمه مع الرواية بأعمال تتبع أسلوب نجوم الرواية الجديدة، وعلى وجه الخصوص مارغريت دوراس. وكتابه الصغير «عن علاقات الدائرة» ثم كتابه الثاني «أبواب المدينة» عبارة عن إعادة إنتاج للأشياء والانطباعات التي يتعايش معها. وإذا لم تكن بيروت، مسرح أعماله اللاحقة، واضحة تماما، هناك إشارات تمثيلية تقودنا إليها. ومع ذلك بقيت مدينته في معدة الليل الذي عانى منه. ولم يحاول ترقية الصور إلى رموز. وعلى هذا الأساس تطورت معانيه بلغة غامضة، قليلة التصوف وكثيرة الحدس والشك، وقريبة للعقل أكثر من القلب. وهذا لا يعني أنها محرومة من الحب، لكنه حب لغوي. ولا أحد يتقن هذه المهنة أكثر منه. وقد دشنها في كتابه النقدي «البحث عن أفق» ثم في كتابه التالي «زمن الشعر». وفي الحالتين تعامل مع الخطاب الذهني والإسمي للذاكرة العربية، حتى إنه حولها من بنية متحولة وذات أطوار، إلى بنية ثابتة ومتكررة ومؤلفة من محطات.
وجاءت روايته الضخمة «باب الشمس» ترجمة لهذه الرؤية. فقد جزأت أيضا الزمن العربي ولحظته إلى حكايات صغيرة ومتناثرة كما فعل ماركيز قبله في «مئة عام من العزلة» لكن بقيت «باب الشمس» على خلاف جذري وأساسي مع كل مقومات التفكير اللاتيني، فلا هي وضعت الأشخاص داخل الأحداث، ولا حرصت على بناء طبيعة قهرية تضغط على روح الموجودات وليس البشر فقط. واستمر الخلاف بين هذه العناصر، وتحولت المدينة إلى تصورات عن نفسها، والأشخاص إلى رموز وتخطيطات، أو بلغة أدق إلى ماكيت يذكرنا برواية «الخالدية» لمحمد البساطي، وليس مدينة ماكوندو التي تكبد ماركيز ببنائها حجرة بعد حجرة، إلى أن تغلبت على واقع أمريكا اللاتينية، وفرضت نفسها عليه.
وهذا ما تمكن إلياس خوري من أن يؤسس له في آخر رواياته المهمة «يالو». وهي عن حبه لبسطاء بيروت، وعن عشقه الدائم الذي لا يقبل المساومة لبحر وجبل المدينة. وفي هذه الرواية رسم صورة مسيح مصلوب في أقبية وغرف التعذيب. والجلاد هنا ليس سلطة الدولة، لكن بؤس الحرب العبثية وغير المنطقية. وأصبح يالو، غيفارا آخر، وبوعي متأخر وإرادة مذلولة، وإنما مع عزم فولاذي.
ومشروع «يالو» لا يختلف كثيرا عن مشروعه في «رحلة غاندي الصغير» و«مجمع الأسرار» وهي نهاية رواياته الصغيرة التي قطعت مع تقاليد الرواية الجديدة وحقنتها على طريقة دوراس أيضا بعاطفة ذات طرفين. الأول هو الطبيعة عند دوراس، الغابات، وعند إلياس خوري الأحياء الممزقة بالحرب الأهلية. والثاني الإنسان، وكان عند دوراس نتاج العلاقة مع حاجاته وخصامه معها، وعند إلياس خوري نتاج دافع دارويني أصلي هو إرادة البقاء.وهذه النقطة مفصلية جدا في أدبه. فقد تشكل وعيه في حروب المخيمات وطبعه بطابع عسكري، وفقدت الأرض في هذا الجو قيمتها وأخلاقها الإنتاجية، وأصبحت ميدان مواجهة، تماما مثلما هو شأن زميله ورفيق دربه أمجد ناصر مؤلف «هنا الوردة» وغيرها.
وفي هذا السياق أجد ان فلسطين تفرض نفسها على روايتنا العربية بثلاثة أشكال..
الأول يأتي في إطار الوعي الراكد، وهو على شاكلة وعي الثورة العربية، وما لاقته من خداع وغش من قبل جميع الفرقاء. وكتب عن هذا الموضوع، السوري عبد السلام العجيلي، وأهم ما يذكر له النظر إلى النكبة وكأنها حفلة إعدام دولي للعرق العربي جملة وتفصيلا.
الثاني تركيب حياة الفلسطيني، ليس كإنسان مهزوم، لكن كإنسان لديه وظيفة محددة هي البحث عن تاريخه المنهوب وبيته الضائع. وفي الذهن «نشيد الحياة» ليحيى يخلف و»حقل أرجوان» لحيدر حيدر.
الشكل الثالث والأخير القضية الفلسطينية وما نجم عنها من كوارث. وهذا هو ملعب إلياس خوري. حتى إنه في مجمل أعماله يؤكد أن تفجير الوجدان وتفريغه في الشرق الأوسط بدأ من فلسطين. وإذا أردنا إعادة تغليف الذاكرة العربية وكتابة الفجوة بشرط عربي ـ تارة باسم الهوية وطورا باسم الحداثة والتنمية والتحرير وغير ذلك، لا بد من حل لغز فلسطين. فهي الدائرة التي تنطبق فيها البداية مع النهاية كما ذكر في عنوان أولى أعماله «عن علاقات الدائرة».
كاتب سوري