ما الذي كان يتوقعه 85 مليون مشاهد عربي تسمروا قبالة الشاشة لمشاهدة الحلقة الأخيرة من مسلسل (نور)!؟ ربما تحلقوا أمام قناة «أم بي سي» ليروا ما آلت إليه نهاية قصة الحب الجارف بين عاشقين من لحم ودم من عشاق العصر. وليسمعوا نور وهي تتمتم (شكراً لك أيها الزمن من أجل كل تلك الأشياء التي علمتني إياها. أشكرك كثيراً). وربما احتشدوا ليفهموا سر نجاح وجاذبية هذا المسلسل الذي لا مفاجآت فيه سوى ذلك السرد البصري الماتع والخطابية العاطفية الطافحة.
المسلسل لم يكن الأول ولا الأخير الذي تعتمده امبراطورية الدراما التركية كجزء من صادراتها الحيوية، سواء على مستوى المنفعة المادية أو على مستوى العلاقات العامة. حيث لعبت صناعة الدراما التلفزيونية التركية دوراً محورياً جوهرياً لتجميل صورة تركيا وزيادة شعبيتها في العالم العربي. نظراً لما تحمله من إشارات ثقافية قوية وهوية، يجعلها مؤثرة وقادرة على الإبدال الثقافي.
إلا أن هذا المسلسل بالذات، الذي تم عرضه في ساعات الذروة. أي ما بين برنامج أوبرا وينفري وفيلم السهرة المسائي، كان نقطة تحول في النظر إلى منتجات تركيا الدرامية. حيث ولّد أعراض ما يعرف بـ»أثر مهند» حيث صار الممثل كيفانك، الذي أدى دور البطولة مثالاً للشاب الجذاب، معبود الفتيات فاستحق لقب براد بيت الشرق. كما أنتج هوساً أنثوياً عابراً للثقافات والحدود تحت مسمى «نور مانيا» أو ما بات يطلق عليه «ظاهرة نور»، الأمر الذي جعل المسلسلات التركية تتحول إلى ظاهرة اجتماعية مغرية للمحللين والنقاد. ومادة فنية جديرة بالدراسة.
الدراما التركية ليست مجرد أعمال ترفيهية يُراد منها التكسُّب المادي من خلال عرضها في أكبر عدد من أسواق وشاشات العالم، بل تحمل بين طياتها حزمة من الرسائل الضمنية والصريحة التي أغضبت المحافظين والمتزمتين في تركيا وما حولها. فقد أعادت ترتيب أولويات نظام القيم في البلقان والمجتمع المقدوني. ولذلك انتقد البيشوب الأرثودكسي اليوناني انثيموس إعجاب اليونانيين بها. فشعبيتها لا تتوقف عند حدود المنافسة بين ما تبثه تلك القنوات داخل تركيا. بل تحظى بإقبال كبير في البوسنة وبلغاريا واليونان وباكستان وإيران والسويد وأوزبكستان التي منعتها لاحقاً بسبب الطبيعة التحررية لنجومها.
وهذا هو ما يفسر ردة الفعل الأصولية الواسعة إزاء الدراما التركية في المجتمعات المنغلقة. ففي السعودية أصدر المفتي عبدالعزيز آل الشيخ فتوى ضد القنوات التي تبث المسلسل. كما توعد الشيخ صالح اللحيدان أيضاً فضائية «أم بي سي»، باعتبارها الحامل للكُفر الدرامي التركي والمبشّرة به. حيث كانت السبّاقة بعرض المسلسلات التركية المدبلجة. كما خصصت ثلاث قنوات للمسلسلات التركية. فقد بدأت بمسلسل «إكليل الورد» عام 2007. وفي شباط/فبراير 2008 بدأت بعرض «سنوات الضياغ».
وفي أغسطس/آب غامرت بعرض مسلسل «نور»، الذي تم إخضاعه للرقابة. ليتحول عند العرض العربي إلى 154 حلقة فقط بواقع 45 دقيقة للحلقة. وعلى الرغم من كل ذلك الحذر إلا أنه لفت انتباه المؤسسة الدينية إلى مخاطر النموذج الدرامي التركي. حيث طالب الشيخ سلمان العودة أيضاً بمراقبة المسلسل والحد من تأثيره.
وهكذا توالت الفتاوى والحملات المضادة لتأثيرها. فهي لا تستفز المتدينين فقط بل تثير حفيظة السياسيين.
حيث أفتى بعض الفقهاء بتحريم الصلاة بالـ»تي شيرت»، التي تحمل صورة نور أو مهند.
أما وزيرة الأسرة التركية السابقة سلمى علي كافاف فقد عبرت عن التناقض الحكومي إزاء أهمية الدراما التركية وأثرها الطاغي، حيث قالت إنها تهدد قيم الأسرة التركية.
كما هاجم رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان بشكل علني مسلسل «حريم السلطان»، لأنه جسد حياة السلطان سليم. وهو مسلسل محقون بنبرة سياسية، وكلفته الإنتاجية عالية جداً. وقد عُرض في 43 بلداً وشُوهد من قبل 200 مليون مشاهد. وحظي بمتابعة عربية واسعة.
أما مسلسل «وادي الذئاب» فقد أحدث أزمة مع اسرائيل، حيث تم توظيف حدث غزة وسفينة مرمرة المشهورة.
مسلسل «نور» الذي حمل في النسخة التركية عنوان «فضة» تم تعريبه إلى نور لأسباب تجارية لا تخلو من البعد الفلسفي للدعاية والتأثير على الجمهور. حيث حمل التحويل اللغوي دلالة مشحونة بالمعاني والقيم.
كما كانت حيلة اللجوء إلى الدبلجة بواسطة ستوديو سما للإنتاج في دمشق، عوضاً عن ترجمة النص على الشاشة ذات مغزى، ليصل المسلسل إلى الأميين وكبار السن. وذلك باعتماد لغة الشارع والحياة اليومية العادية وشكل التخاطب الميداني، على عكس المسلسلات المكسيكية التي تمت دبلجتها باللغة العربية الفصحى. وهكذا أوحت تلك اللهجة الشامية المحبّبة بحميمية الجار التركي وكأن العربي يعيد اكتشاف أخاه التركي.
حتى التسعينيات من القرن الماضي كانت العلاقات العربية – التركية مؤسسة على عدم الثقة. إذ ازدحمت الذاكرة العربية بذكريات مؤلمة ضد الإمبراطورية العثمانية وويلاتها الثقيلة، خصوصاً في مصر وسوريا. حيث وقف العرب ضدها في الحرب العالمية الأولى.
وبمجيء حزب «العدالة والتنمية» ارتفع حجم التبادل التجاري والغيت الفيزا مع عدد من الدول العربية. وكانت تركيا قد تحولت منذ الثمانينيات إلى محج سياحي للعرب.
كل تلك الإجراءات والتحولات أدت إلى تقريب وجهات النظر بين الثقافتين التركية والعربية، المتصارعتين والمتكاملتين في آن. حيث التمازج الروحي في الموسيقى والمكوّن الديني والإشتراك في الحاضن الجغرافي والمرجعيات التاريخية. التي تم تغليفها داخل إطار التبادل الثقافي. وكل ذلك قبل موجة الربيع العربي الذي زعزع تلك المعادلة فكانت سوق الدراما أول ضحاياه لأسباب لا علاقة لها بالفن.
وقد بدأت تركيا في مطلع القرن الجديد استراتيجية جديدة تنهض في جانب كبير منها على تصدير المنتجات الثقافية. حيث تم إنشاء معهد ثقافي عام 2007 بفروع متعددة في لبنان وسوريا ومصر والأردن، لمفاعلة الثقافتين والحد من إحساس العداء ما بين الأتراك والعرب. وتخفيف شعور الأتراك بالتفوق الثقافي وإحساس العرب بالإغتراب داخل الثقافة التركية.
إلى أن هبّت رياح الدراما التركية الجارفة عام 2008 لتعلن عن ظهور أكبر مؤثر ثقافي يمكن أن يحمل التصور التركي لشكل الحياة الممكنة. وبموجب تلك الهبّة تم الإعلان عن تفوق النموذج التركي. وكأن العثماني يضرب من جديد، ولكن هذه المرة بأدوات ووسائل وأسلحة ثقافية ذات طابع فني.
وقد أبانت التقارير في 16 دولة عربية أن ثلاثة من أربعة قد شاهدوا الدراما التركية. حيث تم تصدير 65 مسلسلا منذ 2001 حتى عام 2012. حيث ساعد ذلك على إنتاج مسلسلات فائقة الجودة. بكُلفة مائة الف دولار للساعة وهو رقم يتجاوز كلفة إنتاج الساعة في المنتج العربي بثلاثة أضعاف.
كما شجع ذلك على رفع مستوى شركات الإنتاج وتوسيع رقعة امبراطورية الدراما التركية. مع زيادة كبيرة في حصة الإعلانات التجارية. وكل ذلك جاء كحلقة استكمالية لثورة ليبرالية لقنوات الدراما التركية، التي نالت حق الخصخصة عام 1990. حيث استقرت معظمها في استانبول.
[email protected]
محمد العباس
أحب من أحب وكره من كره الحضارة العثمانية جزء لا يتجزأ من
عروبتنا