الرواية الشهيرة للأديب إحسان عبد القدوس «إمبراطورية ميم» هي الأسعد حظاً، لأنها الرواية التي حظيت باهتمام السينما والتلفزيون على مدى سنوات طويلة، فقد تم تحويلها إلى فيلم منذ أكثر من نصف قرن لعبت فيه البطولة فاتن حمامة أمام أحمد مظهر، ثم تم التنويع على عنوان الرواية ذاتها بشكل كوميدي في عمل آخر بعنوان إمبراطورية مين؟ ولنجاح الرواية إعلامياً وجماهيرياً جاء التوظيف الأخير لها مُتمثلاً في المسلسل الرمضاني الذي يُعرض حالياً ويحمل الاسم نفسه دون تحريف.
وعلى الرغم من اختلاف المحتوى بين مضمون الرواية الأصلية، وأحداث المسلسل، إلا أن نسب الرواية إلى الكاتب إحسان عبد القدوس، أكسبها قدراً من الأهمية وجعلها في صدارة الأعمال المتميزة الجديرة بالمُشاهدة، وهي الحيلة الذكية التي استثمر بها السيناريست محمد سليمان عبد المالك عنوان الرواية مُجدداً، ليكون حاملاً لرسالة المُسلسل الذي لم يأخذ من الرواية غير سياقها العائلي فقط، في حين سارت الأحداث في اتجاه آخر، حيث أضاف السيناريست أبعاداً جديدة للحدوتة، وخرج بها عن إطارها المحدود لتُصبح ذات صلة بموضوعات ومُشكلات كثيرة تتسع لها حلقات المسلسل الذي يطوف حول الأزمات الفردية والجماعية في تشابك واتصال ذي دلالة ومغزى.
الحكاية كما يعرضها عبد المالك ويصورها المخرج محمد سلامة، ليست كما كتبها إحسان عبد القدوس وصورها فيلم فاتن حمامة، وإنما ثمة مُتغيرات عديدة وشاملة أدخلها صاحب الرؤية الدرامية الجديدة، الذي بدأ في تطوير الأحداث من النقطة المركزية لرب الأسرة، الذي فقد زوجته فصار مسؤولاً عن عائلته الصغيرة المكونة من البنات والبنين، فالأب خالد النبوي الذي يحل في المسلسل محل فاتن حمامة في الفيلم مهموم بمشكلات أبنائه الصغار في ظل غياب الأم ويتحمل تبعات احتياجاتهم ورغباتهم الشخصية والمستقبلية ويعاني من اختلاف ثقافاتهم وأمزجتهم والفروق الجوهرية بين ذوقه وأذواقهم، ونمط شخصيته وأنماط شخصياتهم المُتباينة والمُتعددة.
غير أن هناك تحديات أخرى يواجهها الأب على المستوى العام، ربما تأتي أهميتها في المقام الأول باعتبارها الأخطر والأولى بالعناية، فالفيلا التي يقطن فيها تحوي ذكرياته وتاريخه ورائحة أحبابه وزمانه وعطر أيامه صارت مطمعاً للمستثمرين الجُدد أصحاب المشاريع والمُقترحات الاقتصادية العملاقة ومن ثم باتت حمايتها عبئاً ثقيلاً عليه، فهي مجرد رمز لكل الأشياء الثمينة المُستهدفة من رجال المال والأعمال، مع الأخذ في الاعتبار أنها ليست سوى إشارة لمحاولات القنص والاستحواذ التي تُمارس من جانب القوى الاقتصادية الخفية العاملة بإصرار على تطبيق سياسة الهدم لكل أصيل وتسعى لتنفيذ إجراءات الإحلال والتبديل لتغيير وجه وشكل المجتمع، حسب الرؤية المُعاصرة لمن يمتلكون قرارات التحويل والتغيير والتشويه.
كل هذه المعاني الدخيلة على الرواية الأصلية أضافها السيناريست محمد سليمان عبد المالك بتعزيز من المخرج محمد سلامة، لتُشكل ملامح اللوحة الاجتماعية بصورها الجديدة بدءاً من الأسرة كنواة مركزية ومحورية للأحداث الطردية والمُتلاحقة، وانتهاءً بالواقع الإجمالي للمجتمع ككل، فما يُعانيه الأب خالد النبوي على الصعيد الشخصي والعائلي، هو ذاته ما يؤرق كل أب وكل أسرة، والدعائم التي تسهم في تقويته كعلاقته بشقيقته نشوى مصطفى، السيدة التي تقف في ظهره وترعى أولاده، هي نفسها العلاقة المنشودة والمأمولة لسد ثغرات الفُرقة والفصام بين العائلات والأقارب والأصدقاء.
كذلك يأتي دور حلا شيحا معه والحُب الناشئ بينهما بمثابة رتق للثقوب التي اعترت العلاقات الاجتماعية، وتسببت في تهديدها بالفشل والفناء، لهذا يُشير دور حلا تحديداً إلى محاولة التماسك، وإعادة بناء القاعدة الاجتماعية على أسس سليمة وقويمة لتكون أكثر متانة مما هي عليه، فالشخصية التي تؤديها الفنانة الرومانسية بهدوء، وتحاول النهوض مُجدداً من كبوة الانهيار والتعسر بعد إخفاقها في تحقيق السعادة مع زوجها السابق. إن المواقف والأزمات كافة بتفريعاتها الصغيرة والكبيرة، هي المكون الأصلي لأرضية الاستقرار المُفتقدة التي يرمز إليها عنوان مسلسل «إمبراطورية م» المأخوذ كما أشرنا سلفاً عن رواية إحسان عبد القدوس، كحالة عصرية موازية تدور أحداثها بشكل آني في فلك شديد الاضطراب، حيث كل ما يُحيط بالشخصيات يُنذر بعواقب وخيمة، فسياسة البيع الزاحفة على كل شيء لا تُفضي حتماً لما تُحمد عقباه وحالات التمرد البداية في سلوك الأبناء، وسوء التفاهم القائم بينهم وبين الأب، تعكسان مرارة ما يرتد أثرها السلبي على الحياة الأسرية كافة.
هكذا هي حالات التشابه والعلاقة التي أوجدها التطويع والتوظيف المُختلف لرواية إحسان عبد القدوس «إمبراطورية م» في التضمين الدرامي الجديد للحلقات المُسلسلة كنموذج لإعادة التدوير الصحي للرواية المُمتعة الثرية التي لا تزال صالحة للتأويل والتفعيل والاستغلال.