إمبريالية صينية… بخصائص كولونيالية

حجم الخط
4

يوم توفي واضع كتاب «رأس المال» نعته منظّمات العمّال النيويوركية ببيان شدّدت فيه على أن واجب «كل عشاق الحرية الحقيقيين في العالم تكريم اسم كارل ماركس». يصعب تخيّل «عشّاق حريّة حقيقيين» يهيمون بأنماط العيش والبوح في الصين اليوم.
يبرز التحدّي في المقابل، للتعامل مع التجربة الصينية بشكل متفلّت من الاختزالات. أوّلها، النظر إلى الصين كما لو أنّها إمبراطورية الإستبداد الشرقي الدواويني الأبديّ الذي لا يتبدّل، والذي إن تصدّع النسق فيه غرق في الفوضى وتاب مجدّداً إلى الاستقرار بين أحضان الاستبداد، وجدّد تعلّقه بأهداب الحكمة «الشرعوية» في الفكر الصيني القديم، على حساب غيرها من المدارس فيه، وهي الحكمة التي أعطت الأولوية لتنامي ثراء المُلك وزيادة قوّة العسكر، ورفعتهما إلى مصاف الغاية المزدوجة التي تسنّ في سبيلها الشرائع.
وثاني الاختزالات، النظر على العكس، إلى التراثات الحكمية ـ الروحية للصين القديمة المتمحورة حول الرؤية التناغمية للعالم، وفي طليعتها الطاوية والكونفوشية، على أنّها «روح الصين» الحقيقية، لا تكاد تهجرها حتى تنهل منها من جديد بلهفة من يحيي مصادره الثقافية ـ الأخلاقية من جديد.
وتبرز في المقابل الاختزالات المتعلّقة بالاشتراكية والرأسمالية «بالخصائص الصينية». بين من يعتبر أنّ صين اليوم هي الحالة الأكثر تطرّفاً للرأسمالية والنيوليبرالية في العالم، وبين من يستجمع الدلائل والتخمينات والرغبات للخروج بأنّ رأسماليتها هي من جوهر مختلف عن الرأسمالية الغربية، بل من جوهر غير رأسمالي بالمرّة، كما لو أنّ الحزب الشيوعي الصيني هو الذي يوقع الرأسمالية بشركه حين يجعلها تتوسّع في البلاد، إنّما تحت سيطرته.
والحال أن الصين أدركت منذ نهاية السبعينيات أنّه ليس لنظامها مصلحة في محاربة المجتمع الاستهلاكي، بل على العكس، مسابقة العالم إليه، سواء بانتاج السلع الاستهلاكية على أوسع نطاق، أو بتوسعة دائرة استهلاكها من قبل الصينيين، أو بالترويج للثقافة الاستهلاكية نفسها طالما بالمستطاع فصلها عن تنمية الوعي الفردي الإعتراضي، أو المطالب بالمشاركة السياسية. في نفس الوقت، استمرّ النظام يجد «سرّه» في طرفة منسوبة لدينغ شياو بينغ بأنه لا ضير، في دولة يحكمها حزب شيوعي، من المساكنة مع السوق وظهور كبار أغنياء، طالما بالمستطاع مصادرة ما لهم في أي وقت. وليس السرّ هنا أنّه «يضمر» الإشتراكية للمستقبل، بل أنّه قادر على تأمين مطواعية كبار رجال الأعمال للحزب الشيوعي، والتركيز في المقابل على المتاعب الإنتقادية التي تحملها معها شرائح «الطبقة الوسطى» المدينية، التي يعتبر الحزب الحاكم أنّ خير سبيل لمواجهتها هي مزيج من قيادته لعملية مكافحة الفساد، ومن التضحية بالقيادات المحلية حين تتصاعد بوجهها حملات تذمر، كما حدث في محافظة خوباي في اعقاب الأسابيع الأولى من سوء تدبير السلطات المحلية فيها حيال تفشي فيروس كورونا المستجد.
منذ مراجعة الصين للحقبة الماوية، والحزب الحاكم فيها يلوم رسميا فترة ماو ابان الثورة الثقافية بأنها غالت في القول بتصاعد الصراع الطبقي داخل مجتمع يسوده حزب شيوعي. هي لا تنفي استمرار هذا الصراع في الصين اليوم، لكنها تعتبر بأن على الحزب السيطرة عليه، والتحكم به: حزب تأميم الصراع الطبقي، بتذكير رجال الاعمال مثلا، اذا ما دعت الحاجة، ان هناك طبقات كادحة يمكن ان تنقض عليهم. وبتذكير الطبقات الشعبية بأن احوالها الغذائية والمعاشية تحسنت بشكل نوعي منذ الثمانينيات والى اليوم، رغم تمادي الفوارق الاجتماعية في نفس الوقت، ورغم انبعاث اشكال من العمل اقرب الى نمط الانتاج العبودي في كثير من القطاعات.
لكل اختزال حيثياته شرط أن يكفّ عن اختزال كل الواقع عليه.

الصين أدركت منذ نهاية السبعينيات أنّه ليس لنظامها مصلحة في محاربة المجتمع الاستهلاكي، بل على العكس، مسابقة العالم إليه، سواء بانتاج السلع الاستهلاكية على أوسع نطاق، أو بتوسعة دائرة استهلاكها من قبل الصينيين

كذلك الحديث عن «إمبريالية صينية» آخذة في التبلور شرق آسيا، لهذه حيثياتها أيضاً شرط الإلتفات إلى فارق أساسي بينها وبين «الإمبريالية اليابانية» سابقاً. نهضت الأخيرة على مفارقة: إيمان روّاد حركة التحديث في اليابان أواخر القرن التاسع عشر بأنّ عليهم نهل كل ما يمكن نهله من تقدّم العلوم والصناعات وكذلك المؤسسات في الغرب، انما بالإعتماد بشكل أكثر محورية على دور الدولة وجهازها في قيادة عملية التحديث، وإيلاء مقام أساسي للنموذج الذي قاد فيه جهاز الدولة التحديث اللحاقي ثم التسابقي مع الأمم الأخرى في أوروبا، أي نموذج بيسمارك في المانيا. وكما كانت الحركة القومية تنادي بالوحدة الألمانية والتحديث الصناعي، أيضاً كي لا تقع البلاد الناطقة بنفس اللغة، فريسة أطماع الفرنسيين والإنكليز وآل هابسبورغ في النمسا وروسيا، فقد وضع روّاد النهضة اليابانية أنفسهم أمام خيارين لا مجال للتردّد بينهما، إمّا أن تتحوّل اليابان إلى شبه مستعمرة، قرينة بحال الصين بعد حربي الأفيون، وإما أن تقوى اليابان بالتحديث المعتمد على آلة الدولة والتراث الثقافي المعاد تنبيته كتراث مطواعية لها، وانضباطية بها، فتنال مكانها بين الإمبرياليات، وتكون لها مستعمرات.
كي لا نتحوّل إلى مستعمرة علينا أن نكون مستعمِرين: هذا ما سيطر على جزء كبير من عقول روّاد التحدي ابان نهضة ميجي وبعدها في اليابان، أي مشروع «إمبريالية معادية للإمبريالية»، إمبريالية معادية للرجل الأبيض، وطليعية في دعم فكرة «الجامعة الآسيوية»، وملهمة لكل النخب الثقافية في الصين والهند وفارس والإمبراطورية العثمانية، بخاصة حين انتصار اليابان على «الرجل الأبيض» ممثلاً بروسيا القيصرية عام 1905. في نفس الوقت، ستمارس الإمبريالية اليابانية دور «الرجل الأبيض الآسيوي» في مواجهة الشعوب الآسيوية الأخرى، وتذهب بعيداً نحو نظريات تفوّق اليابانيين عرقياً على سواهم من الشعوب المجاورة. وبما أن التاريخ لم يعرف يوماً وجهاً واحداً، فإنّ اضطهاد اليابانيين للكوريين مثلا لا يلغي أن اليابانيين أسسوا للتحديث التصنيعي في كوريا كما في تايوان كما في مناطق البرّ الصيني الذي احتلوها. مثلما لا تلغي إمبرياليتهم في سني الحرب العالمية الثانية، أنّهم ساعدوا عملياً حركة التحرّر الأندونيسية.
كانت اليابان «إمبريالية أنتي إمبريالية»، وكان لهذه المفارقة دور أساسي في هزيمتها، وفي إحباط فكرة «الجامعة الآسيوية» إلى اليوم.
أما الصين، فهي تتطور كـ»إمبريالية بخصائص كولونيالية»، وهذا مختلف كثيراً، وتنبثق عنه توتّرات عديدة. لا تبنى هذه النظرة فقط على تحوّل الصين طيلة ما يسميه الصينيون أنفسهم بـ»قرن الإذلال» بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، إلى شبه مستعمرة، بل خضوع مناطق واسعة منها للإستعمار المباشر، الأوروبي أو الياباني. ترتكز أيضاً إلى التحدّي الذي تواجهه الثورة الصناعية الصينية المعاصرة. فالرأسمالية الغربية يناسبها جدّاً أن تنتقل مصانع شركاتها إلى الصين حيث كلفة الإنتاج أقلّ، وحيث يتكفّل نظام «شيوعي» بانضباط القوى العاملة في المصانع، لكنه لا يناسبها بالمقدار نفسه انتقال الصين من موقع المستورد للمعرفة التكنولوجية ذات المنبت الغربي، إلى موقع المبتكر الريادي المستقلّ في هذا المجال.
قد لا يكون بالمستطاع الحفاظ على وضعية الصين كدولة مصدّرة للسلع الاستهلاكية، بما فيها أحدث السلع الإلكترونية، مع بقائها دولة مستوردة للمعرفة التكنولوجية الغربية، لكن هذه الوضعية ما زالت شبحاً مخيّماً، ولم يجر تجاوزها بشكل نهائي بعد. كذلك، فإنّ الخوف من أن يؤدّي أي تقهقر للعودة إلى نموذج «شبه المستعمرة» لا يزال له صداه.
خسرت روسيا إمبراطوريتها الأوسع مع سقوط الإتحاد السوفياتي، لكنها أظهرت مجدّداً، رغم كونها دولة الريوع النفطية والغازية في المقام الأوّل، بأنّها أبعد ما يكون عن نموذج «شبه المستعمرة» الذي دغدغ شعور الإمبرياليتين الأمريكية والألمانية بعد انتهاء الحرب الباردة، في نظرتهما إليها. ليست هذه حال الصين، وهذا جزء من مصادر استمرار قيادة «الحزب الشيوعي» لها. قيادته تكثّف هذا التناقض بين كونها إمبريالية جديدة آخذة في النموّ، شرق آسيا، وبين كونها لم تنته تماماً من سماتها الكولونيالية. تماماً مثلما أنّ الإنتقال الضخم الذي شهدته من بلد ذات أكثرية ريفية أواخر السبعينيات إلى أكثرية مدينية اليوم، تقابله هوّة أكثر استفحالاً بين المدن الكبرى وبين الأرياف، غير موجودة على هذا النحو في أي بلد آخر، وهذه أيضاً سمة «كولونيالية» بامتياز.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول _خليل _@ عين باء:

    تمتلك الصين كل الخصائص التي تؤهل اي قوة كي تصبح قوة امبريالية و التاريخ

    لا يذكر اي حضارة دون توسع و حروب تلك سنة من سننه

    شكرا استاذي وسام سعادة

    تحياتي

  2. يقول العلمي. ألمانيا:

    فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
    و لا تُتقى حتى تكون ضواريا
    الصين إما أن تكون امبريالية أو لا تكون.
    ليس لها اختيار آخر

  3. يقول عبد الوهاب عليوات:

    ما لا أفهمه لماذا العمل على شيطنة الصين بعد ان نححت في تبني نموذج اقتصادي رأسمالي دون تغيير نظامها السياسي وهي دولة حروبها واعتداءاتها على باقي دول العالم قليلة جدا مقارنة بأمريكا وبريطانيا وفرنسا التي يتم تقديمها مثالا للحرية الأنسانية رغم جرائمهما الاي لا تحصى ضد الأنسانية؟

    1. يقول عبدالرحمن عبدالحليم:

      لان هذا هو المطلوب شيطنه الصين
      لاميركا تريد جر العالم اجمع لمحاربه الصين معها
      نحن المسلمون ليس لنا مصلحه في عداء مع الصين ومن الأفضل لنا ان نقف على الحياد

إشترك في قائمتنا البريدية