بالنسبة إلى علماء التشريح، فإن يد الإنسان هي دماغه الثاني، وفيها من التعقيد والغموض، أن البحوث العلميّة في هذا الباب تبدو غير كافية، ولا بدّ من الاستعانة برجال الفكر والفلسفة والفنّ، لغرض الإحاطة بما تقوم به يدنا في الحياة بصورة مباشرة وغير مباشرة. وليس من باب الصّدفة أن هويّتنا الشخصيّة تتقاسمها اليد عن طريق بصمة الإصبع، مع البصمة الثانية التي لا تمّحي، الكائنة في الجزء الظاهر من الدماغ، وهو العين. لكن الأولى تتغلّب، في رأيي، على الثّانية لأن فيها هوية اجتماعية يقوم أحدنا بتعريف نفسه بها، وهو التوقيع ـ أي الإمضاء ـ وهذا ليس من عمل اليد وحدها، إنما أبداننا تقوم بهذه المهمة بمجموعها، وتوكلُ الأمرَ إلى اليد.
أوّل توقيع عرفته وأحببته كان توقيع أمّي الثانية، خالتي «جميلة»؛ الحرف الأوّل من اسمها يلتفّ مثل موجة تنمو باطّراد وتتكسّر، ثم تتشظّى وتنتهي. كانت تعمل مديرة مدرسة، وتحمل معها الوثائق والشّهادات وقوائم الرّواتب إلى البيت، حيث تنجز أعمالها في ليالي الشّتاء الطّويلة، وكان الطّفل الصّغير يرقبها، ويحبّ كلّ ما تقوم به، ويجرّب بسبّابة يده من أثر الانفعال أن يرسم اسمه مثل موجة تنمو باطّراد، وتتكسّر على الشاطئ.
في تلك السنين كان أبي يعيش في عزلته القديمة، جنديّا اشترك في الحرب العالميّة الثّانية، وسُرّحَ من الجيش، ثم أُحيل على التّقاعد، وعاد مثل المنفيّ إلى مدينته الأولى يعيشُ حياةَ التّبطّل. في المناسبات التي نحتاج إلى توقيع أبي، كان يتّخذ جلسته في مكانه المعتاد، ويبدأ بنقش اسمه على الورقة، ويتبعه باسم جَدّي، يمدّ في الخطّ، ويقصر، ويرسم دوائرَ، وزوايا، ثم يضع ما يشبه الرّايات المثلّثة يؤطّر بها لقب العائلة، ويعود يشابك بين الحروف ويداخل، ويضع علاماتٍ غير مفهومة هنا وهناك، ولمّا ينتهي من عمله، يدخّن سيجارة. توقيعي الأوّل في أيّام الصّبا كان يشبه زورقاً بشراع تعصف به الريح، وظلّ رسمي هذا حتى قامت الحرب العراقية الإيرانية. الآن أنا جنديّ في لواء المشاة البحريّ (445) في ميناء أمّ قصر، ويتطلّب عملي أن أقوم يوميا بالعشرات من الأعمال التي لا تُنجز إلاّ بتوقيع؛ وجبات طعام الجنود المرضى والأدوية والإجازات المرضيّة وشهادات الوفاة، وغير ذلك ممّا يجري في وحدة عسكريّة فعّالة في البرّ والبحر. مع كلّ توقيع يجب ذكر الاسم والرتبة العسكرية والصنف؛ جنديّ مكلّف طبيب، وأعلاه يكون التّوقيع. سوف يتنقّل معي هذا الرسم في وحدات عسكريّة ترتحل بين شمال الوطن إلى غربه وشرقه وجنوبه، وإلى جنوب الجنوب. أمضيتُ خمس سنين في الخدمة في الجيش، ومرّت عليّ أيام لا يرى مثلها المرء حتى في أفلام الخيال العلميّ، حيث تتّحد القسوة لدى الإنسان مع الرأفة، وعاطفة الحبّ مع الكره، والرغبة في الانتقام مع الحاجة الملحة إلى الإيثار، أو الأثرة، كلّ حسب طبعه وتكوينه وتربيته. جميع التناقضات في النفس البشريّة، عندما تصل مبلغ الذروة، لا تعيش في مكان وتبين بصورة واضحة مثلما في الحرب. هل أستطيع اختصار تجربتي في جبهات القتال في هذه المشاهد الثلاثة؟
مشهد رقم 1
في يوم شتويّ غائم قمت بفحص محتويات شاحنتين من أكياس الخَيْش فيها قليل من التّراب والعظام، وهو ما يُعرف في علم الحرب برُفات الشّهيد. من بين أكثر من ثلاثة آلاف رفات عثرتُ على قرصين معدنيّين لجنديّين، وآخر لضابط برتبة نقيب، بالإضافة إلى أربع بطاقات شخصيّة وصورة بالأسود والأبيض لامرأة غامت ملامحُها، وبقي أثر الفوطة السّوداء حول وجهها – الشّيلة- غريب أمر هذه المرأة، وفي هذا المكان بالذات، كما أنها بلا ملامح. هل كانت أما لجميع هؤلاء الجنود القتلى، ترعاهم في رقدتهم الأخيرة؟ يتبارى الواقع في حياتنا مع الخيال في تقديم صور أدبيّة نقوم نحن الكتّاب بنقلها على الورق، ويتفوّق الواقع كثيرا على الخيال، لأنه لا قدرة لأعلى موهبة فنيّة على ابتكار ولو تخطيط بسيط للصور الغريبة، التي نعيش في محيطها كلّ يوم. كان عملي بصفتي طبيبا يقتصر على تدوين أرقام وأسماء الجنود على شهادة الوفاة، أما بقيّة الأكياس، فقد حمل التراب وبقايا العظام فيها بدلاً من أسمائهم، هذا النّعت الغريب: «شهيد مجهول»، وكان عليّ أن أحرّر لكلّ واحد منهم شهادة وفاة، وفي أسفل الورقة أوقّع. سلّمتُ الأقراص والبطاقات الشّخصيّة إلى وحدتي العسكريّة، واحتفظت بصورة المرأة الأمّ، وصارت من مقتنياتي..
مشهد رقم 2
انتحر آمر وحدتي العسكريّة في أحد أيّام المعركة التي عُرفتْ بـ«الحصاد الأكبر»، اشتعلت نيرانها آنذاك في أرض سبخة في مدينة البصرة لا نبات فيها ولا طير. كان الملجأ الذي يسكنه آمر الوحدة يقع لِصْقَ مقرّ الطّبابة، حيث أعمل. لم يحتمل النّقيب الطّبيب، وهذه رتبته، وكان صديقي، ومن الدّفعة نفسها التي تخرّجت منها في كلّيّة الطّبّ، لم يتحمّل أن يسقط آلاف الجنود قتلى في كلّ يوم، فأطلق النّار على رأسه من مسدّسه، وسقط رأسُه على المنضدة. كان شعره الأشقر الدّاكن يكاد يكون كستنائيًّا، القذال منه مصطبغ بالأحمر، لكنّ شاربه ظلّ محتفظاً بلونه البنّيّ الخفيف. كان عليّ أن أحرّر وصفاً بالحادث إلى الجهات العسكريّة العليا؛ مدخل الطّلق النّاريّ عند أعلى الصدغ، والمخرج في أسفل القحف، وعدد كِسر العظام المهشّمة، والوشم الباروديّ على الوجه الفتيّ الجميل. قطرةً قطرةً تتبّعتُ الدّماء التي تفجّرت على حائط الملجأ، وعلى أرضه، وعلى السّقف، وبعد أن دوّنت التّفاصيل، ومعها حزني الشّديد الذي لم أستطع كتابته مع تقرير الطّبّ العدليّ الخاصّ بالحادث، بعد كلّ هذا العناء الذي لا يوصف، وضعت إمضائي في الأسفل: جنديّ مكلّف طبيب..
مشهد رقم 3
عاقب ضابطٌ جنديّاً بالحبس في سجن الوحدة العسكريّة. وحدث أن نسيَ السجّان أمر هذا الجنديّ البائس، فظلّ أياماً دون طعام ولا ماء. شمس تمّوز شوتْ دماغ الشّابّ الجنديّ، ففقد وعيه، وعندما عُدْتُه كنت أعلم أنه ميّت لا محالة، لكنّي كتبت له الدّواء ومعي في القلب أمل يشبه ما تحمله الأمّ، ووقّعتُ على أصناف الدّواء، وعلى أنواع الأمل. مرّت الأيام، وبدلاً من أن يَغيض لونُ الشّاب، مع تدهور حالته الصّحّيّة، انتبهت إلى أنّ سحر وجهه الفتيّ ظلّ يتنامى شيئاً فشيئا، ويزداد كذلك النّقاء في السّحنة، مع ازدحام خطوط توقيعي على سطح ورقة الفحص. وجهه الطّفوليّ، وقد علاه البياض، أصبح شبيها بالزّنبقة، وكذلك يداه، فصار مثل باقة من الزهر. في إحدى زياراتي، وبينما كنت أفحص النّبض في الساعد، أحسستُ بحركة غريبة، حيث عادت الحياة إلى يده وحدها دون بقيّة الجسد. كنت أستطيع في تلك الوهلة سماع النّهار يشرق في النّوافذ، عندما أمسك الشّاب بذراعي، متشبّثاً بها بقوّة غير عاديّة، وكان ينظر إليّ وعيناه مفتوحتان على وسعهما، وفيهما لغة كأنّما لمخلوق قادم من كوكب آخر. راحت يده تنغرز في عظام ساعدي، وتعاون ثلاثة من الجنود الممرّضين الأقوياء ليفكّوه عنّي، وكانت عيناه تتّسعان أكثر مع كلّ لحظة تمرّ. هل كان يرى هاوية الموت وهي تبتلعه، ويطلب منّي المساعدة؟ شهرٌ وأربعة أيّام وخمس ساعات ودقيقتان ظلّ الجنديّ ينازع، ثم صرعه شبحُ الموت في الأخير، وكان عليّ أن أكون حكم هذا النّزال، وأعلنَ النّتيجة للجميع، وأوقّعَ في الأخير!
انتهت الحرب، وتسرّحت من الجيش، وها أنذا أعمل طبيباً في مكاني، ما يسمّونه عيادة خاصّة بلافتة تحمل اسمي. أعالج المرضى، وأصفُ لهم الدواءَ وتعاليمه، وغير ذلك من إرشادات طبية، وفي أسفل الورقة المزدحمة بالحروف والأرقام، أوقّع. الغريب في الأمر أن رسم إمضائي ظلّ كما هو: «ج. م. طبيب»، أكاد أحفره على ورقة العلاج من شدّة حبّي له، متمهلاً، متأنياً، تماماً مثلما كان يفعل أبي وهو ينقش إمضاءه، ومُلتذًّا به كذلك لأنّه كان التّعويذة التي خرجت بها حيًّا من محرقة الحرب. أتأمّل الرّسم البديع في كلّ مرة، وكأنّي أرى توقيع أمّي الثّانية، خالتي «جميلة» يتشكّل أمامي… ومثلما لكلّ فصل نهاية، انتهى توقيعي الحربيّ:
كنت أجلس في مكاني المعتاد في البيت، وكانت ابنتي رند ذات الأربعة أعوام تلهو بالكتابة على سبّورتها بقلم الزيت. الأفق السّاحر يدخل النّافذة متناغماً مع مشهد عصر يوم صيفيّ. ابنتي تخطّ، وتمحو، وترسم، و»تشخبط». إلى أن هتفت بي:
«انظر يا أبي!». تبدّد الصّمت الخامل في غرفة المعيشة فجأة بصياحها، وبدهشتي بما رأيت:
رسمتْ حاءً أوليّة ممدودة، يعقبها فراغ، ثم رقم يشبه جناحي طائر، وهو ثمانية (٨)، مع «شخطةً» فوق جناحي الطّائر.
قد صار رسمُ ابنتي منذ تلك اللّحظة توقيعي!
كاتب عراقي