الناقد صفة أدبية تطلق على من يتمتع بالقدرة على تذوق النصوص وسبر مستوياتها، وهو أمر لا يتأتى إلا بالموهبة المشذبة بالقراءة الواعية، التي تمنح صاحبها ذخيرة بها تقوى أدواته فيتمكن من أداء وظائف التفسير والشرح والتحليل والتأويل. ولكن ماذا عن الكاتب الذي يرى النقد الأدبي عملية إنشائية فيها تختلط المفاهيم بالمصطلحات، وتتحشد الأسماء وتحشر المقولات حشرا، فتكون الفوضى محصلة، بها يتلبس هذا الكاتب صفة الناقد قسرا.
يجرِّب كثيرون حظهم في مجالات كتابية يخفقون فيها، ويهرعون إلى النقد آملين في أن يجدوا ضالتهم فيه، متخذين من الإنشاء طريقا لبلوغ مآربهم، غير أن القراء الاعتياديين يحسبون هذا الإنشاء نقدا أدبيا. ولأنهم لا يجدون فيه شيئا واضحا ومحددا، بل هو طلسمة وطنطنة، تقودان إلى التعمية والتضليل، يحكمون على النقد الأدبي أنه عملية زائدة ولا جدوى منها للإبداع الأدبي. ولا شك في أن لكتابة المقالة الأدبية مواضعات تجعل الصفة الإنشائية فيها مشروطة بوحدة الفكرة وموضوعيتها وجدتها، وبخلاف ذلك تكون المقالة غير متماسكة وترتدي ثوبها الفضفاض فتنأى عن أن تكون ناجحة. أما المقالة النقدية الغنية والمتسمة بالرصانة، فإن الصفة التحليلية هي الغالبة، وأي إنشاء يتخلل سطورها، أو أي فكرة تقحم قسرا وتربط عمدا لتتداخل مع فكرة أو أكثر، فإنما يُضعف بناءها، ويبعدها عن اكتساب العلمية المتوخاة منها، ويفقدها قيمتها النقدية.
هذا ما أثارته فيَّ مقالة (الرواية سردنة التاريخ وفاعلية المتغير) للكاتب علي حسن الفواز، المنشورة في «القدس العربي» بتاريخ 13 فبراير/شباط 2024. وما يلفت النظر فيها هو متنها الفضفاض وما حُشدت فيه من أسماء ومقولات ومصطلحات وأفكار لا تمت بصلة لما يوحي به العنوان من جانب، وواقعية نجيب محفوظ من جانب آخر. فقد جمع الكاتب بطريقة الخبط والخلط كل المفردات التي أشبعها النقد تنظيرا وتمثيلا، وحشر المقولات حشرا، ما أدى إلى التباس الواقع في كينونته الزمنية بالتاريخ في كينونته السردية.
وقد بانت إنشائية الكاتب منذ السطور الأولى التي فيها جمع أسماء الأعلام ممن لم يتخصصوا في موضوعة التاريخ والسرد، بل لهم باعهم في مفاهيم الشكل والبنية والسيمياء؛ فبدأ بالشكلانيين بروب وتوماسفشكي ثم انتقل إلى غريماس ودريدا وتودوروف لينتقل بعدها الى مجموعة مفاهيم لا صلة تجمع بينها، وحشرها دفعة واحدة مثل تعددية الأصوات والحوافز والبنيات وفائض المعنى ثم القراءة والتلقي والتفكير. واتخذ من نجيب محفوظ مثالا لما تقدم ليقوم على الشاكلة نفسها بتحشيد مفردات (الأيديولوجيا والعقدة والاعتراف والجنس والثورة) وعدَّ الحكاية هي التاريخ وأن الرواية الجديدة هي رواية ما بعد الحداثة مع عبارات إنشائية مثل (حكي قياسي ومطابقة حكي/ سرد الحكاية والحكي الممنهج/ الحكاية الأسطورية/ رمزية مفهوم الحكي والحكواتي) والأدهى من ذلك كله تصور الكاتب أن هناك فاصلا بين الحكي والسرد (الحكي بوصفه سردا). وغني عن البيان أن السرد هو الفضاء الأعم والحكي جزء من هذا الفضاء، أو قوله إن نجيب محفوظ (جعل تاريخ الرواية العربية المعاصرة) عقدة ولعبة بهما تحدي الروائيين العرب، وأن السرد غير التاريخ (السرد كلعبة تدوينية بمواجهة التاريخ ذاته). بهذا الشكل تصبح الإنشائية وبالا على صاحبها فتؤدي به إلى المغالطة، ومن حسن الحظ أن النقد الأدبي حقل معرفي يفضح من يأتيه بلا مقدمات ولا مرجعيات ولا أدبيات، ولذلك يتحصن الكتّاب من الوقوع في المغالطة من خلال الحرص على إتقان أصول البحث، والكاتب الذي لا يكترث لهذه الأصول تغلبه الإنشائية وتكون سمة سلبية، بسببها لا يمكن له أن يطال النقد الأدبي لا من قريب ولا من بعيد. أما الانطباعية فليست هي الإنشائية كونها تتحصن بالدربة والمران والمنهج، فلا تقع في التدبيج والتسطير الإنشائي الذي يضيع عليها صفتها النقدية.
والتدبيج الإنشائي في المقالة أعلاه، بدا جليا فتعددت المغالطة في مواضع كثيرة مثل (عقدة نجيب محفوظ الروائية) و(سردنته تاريخ المدينة المصرية) و(لعبة محفوظ في سردنة التاريخ) و(هويات الاجتماع المصري) و(شخصية البطل اليومي) و(الحكاية استعادة لنوع من سردية المقامة).
وما أفضى إليه هذا التدبيج الإنشائي هو افتراض الكاتب، أن الواقع هو التاريخ، وهذا ما يتناقض مع أدبيات ما بعد الحداثة ونظريات السرد التاريخي. ومن المفروغ منه أن السرد مفهوم عام ينطبق على الأدب بكل صنوفه، كما ينطبق على التاريخ والسياسة والاجتماع والدين والميثولوجيا، إلخ. وما تنظيرات هايدن وايت للمتخيل التاريخي، سوى توكيد لحقيقة أن التاريخ سرد، أيا كان هذا السرد حكاية أو قصة أو رواية، وليست وراء ذلك استعادة البنية لسياقها، أو الرواية للحكاية – كما تصور الكاتب الكريم – لأن أصل التاريخ أنه سردية صغرى، وما من سرديات كبرى لا يرقى إليها تخييل أو لا يتغلغل فيها. أما تصور الكاتب أن الواقع والتاريخ واحد، فهو من قبيل الخطأ الشائع، والفارق بين الواقع والتاريخ هو بلا شك كالفارق بين الرواية الواقعية والرواية التاريخية ورواية التاريخ. ومن ثم لا تتساوى مفردات (الوقت، الزمنية، الماضي، التقاليد، التراث) فكل واحدة لها حدها المفاهيمي، وإذا كان بعض منظري الواقعية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد عدوا الواقع مرادفا التاريخ، فإن الأمر تغير مع مرحلة ما بعد الحداثة التي معها صارت الحداثة نفسها إشكالية تفرخ إشكاليات كثيرة من بينها التاريخ. ولهذا السبب وجد هايدن وايت أن في فك الاشتباك المفاهيمي بين الواقع والتاريخ ما يساهم في فهم الحداثة وما بعدها، فهي في لا نهائيتها تمثل التاريخ في لا زمانيته، وعليه تكون لكل زمان حداثته. يقول هايدن وايت في دراسة له عنوانها (الحداثة والإحساس بالتاريخ Modernism and the sense of history): (أنا أعتبر الحداثة حركة ثقافية تبلورت في وقت ما بين عامي 1910 و1930 كرد فعل على عملية التحديث التي سعت إلى إزالة الغموض عن العالم، وتدمير الخرافات والأساطير. وأؤكد أن الحداثة، بالنسبة لي، هي استجابة ثقافية للتحديث والهدف هو إقامة علاقة خيالية بديلة مع الواقع، غير تلك التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر في المجتمع الأوروبي. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى الحداثة وما بعدها بشكل عام على أنها رؤية تفترض ضرورة المراجعة الجذرية للتاريخ).
فالحداثة وما بعدها ليست مجرد سمات تطرأ على الواقع، فنشعر أن جزءا منه مضى وانقضى، وآخر منه استجد أو تجدد، بل الحداثة وما بعدها فكرة متجسدة وحاضرة في كل أوان ومشتركة وعامة في الفنون والآداب وتتميز، حسب هايدن وايت، بـ:1/الإيمان بالاستقلالية الجمالية في مواجهة الكليات. 2/ الإنتاج الثقافي وانهيار التمييز بين ما هو فني وغير فني. 3/ كل شيء في الواقع بما فيه الطبيعة هو مصنوع وغير حقيقي (تم تشكيله) ويمكن التعامل معه على أنه فن. 4/ أن الحداثة وما بعدها كامنة في الشعر واللغة والكتابة. ويستند هايدن وايت في طرحه هذا إلى فلسفة الأمريكي فريدريك جيمسون (1934) الذي وصف الحداثة وما بعد الحداثة بأنها «مجازات» تفيد في كتابة روايات تاريخية بديلة عما كتبه مؤرخو التاريخ الرسمي، الذين إليهم توجه تهمة أنهم أيديولوجيون. من هنا يكون السرد الواقعي هو الحاضر كمفهوم ذي بعد أحادي وفيه المتخيل السردي إيهامي، في حين يكون السرد التاريخي أوسع مدى وأبعادا؛ فهو الذي عاشه الاسلاف وخلفوه لنا تراثا نعيشه اليوم وستعيشه بعدنا أجيال أخرى. وهذه هي حداثة التاريخ وهي أشمل من الواقعية التي بدأت بعصر النهضة وعصر الاستكشاف والإصلاح والثورة العلمية، في حين بدأت حداثة التاريخ من زمان يتجاوز الزمان الذي تم تدوينه على أنه ماض إلى الحاضر التاريخي الذي يفترض أن له ماضيا ومستقبلا. وبهذا الامتداد الزماني يمكن لنا أن نبصر في التاريخ أنواعا من الغموض والتناقضات التي هي مهمة الحداثة وما بعدها في مختلف مراحلها.
إن هذا الذي يطرحه هايدن وايت حول الحداثة يؤكد أن التاريخ شيء والواقع شيء آخر. وما الوقوع في مغالطة أن الواقع هو التاريخ سوى تبعة من تبعات النظر إلى التاريخ سردية كبرى، هي مصدر من مصادر الحكمة أو المعرفة. وهو ما تعارف عليه كتّاب الرواية منذ بلزاك وفلوبير وتولستوي وزولا وكونراد. وقد ساهمت ما بعد الحداثة في تفنيد قدسية التاريخ، الأمر الذي سمح للمتخيل التاريخي أن يسبر أغوار المدونات التاريخية وهو ما مثلته رواية التاريخ.
صحيح أن نجيب محفوظ ابتدأ مسيرته الإبداعية بكتابة الرواية التاريخية لكنه لم يجد فيها بغيته، لأنه تعامل مع التاريخ كتعامل كتّاب القرن التاسع عشر، أي سردية كبرى. ومن ثم وجد في الرواية الواقعية ما يلبي أهدافه فواظب عليها، وأودع فيها أفكاره الاجتماعية، تارة بواقعية نقدية وتارة أخرى برمزية فلسفية، باستثناء بضعة أعمال روائية وقصصية استدعى فيها نجيب محفوظ بعض المرويات التراثية كحكايات ألف ليلة وليلة، ورحلة ابن بطوطة، لكن قصده ظل رمزيا وواقعيا بالعموم والخصوص.
إن إدراك هذا الفارق المفاهيمي بين الواقع والتاريخ من جهة والرواية الواقعية ورواية التاريخ من جهة أخرى، يوجب على من يخوض في هذه الموضوعة النظر المتفحص الدقيق في أطروحة هايدن وايت، وليدع جانبا كل ما أتت به طروحات الشكلانيين والسيميائيين، لأنها حطبت في واد غير الوادي الذي احتطب فيه هايدن وايت وبول ريكور ومعهما منظرو التاريخانية الجديدة. ومن كتب هايدن وايت التي فيها نلمس فصلا منهجيا دقيقا بين الواقع والتاريخ كتاب (الماضي العمليThe Practical Past )2014 وأخذ المفهوم من الفيلسوف الإنكليزي والمنظر السياسي مايكل أوكيشوت (1901-1990) الذي استعمله للدلالة على ما يوظفه الأفراد ضمن لغة ما من تعابير ومفردات يوجهون بها شؤون الحياة اليومية. ويجعل هذا التوظيف من الماضي حاضرا، وهذه الحاضرية هي التي وجهها وايت لصالح فكرته في أن التاريخ سرد. ولقد دعا هايدن وايت المؤرخين إلى أن يأخذوا على محمل الجد الماضي العملي فيوسعوا مصادرهم في أرشفة التاريخ وألا يقتصروا على الوثائق والمدونات، بل يضموا إليها الأعمال الابداعية مثل الروايات والمسرحيات واللوحات والافلام وغيرها كما دعا بالمقابل المنظرين الأدبيين إلى إشراك المؤرخين معهم في تأصيل النظرية الأدبية.
وكان وايت قد جسّد هذه الفكرة في كتابه (ميتا تاريخ: الخيال التاريخي في أوروبا في القرن التاسع عشر) 1973 وفيه الماضي ليس هو الحاضر الآني ولا هو الماضي المنصرم، بل هو الذي أُرشف وحُفظ كسجلات ومرويات وأنطولوجيات. والماضي بهذا الوصف هو التاريخ الذي لا يمكن أبدا استعادته «كما حدث بالفعل» ومن ثم يكون المؤرخ في موضع المساءلة من لدن من يعيد كتابة التاريخ. أما الرواية الواقعية فساردها يسائل الواقع من خلال سبر أغواره، وهذه هي وظيفته، وبهذا الشكل تعامل نجيب محفوظ مع مجريات الواقع المصري خاصة والعربي عامة.
كاتبة عراقية