السلطة دائماً على خطأ، حتى عندما تكون سلطة إلهية. ولكل سلطة إلهها. نحن لا نجهل هذا. وإذا كانت آلهات سلطة الإنسانية القديمة، في أطوارها الميثولوجية، أو ما يشبهها، ذات بُعْد غيبي أو أسطوري، ومبادئها تمزج الواقع بالخيال، والحاضر بما سيأتي ذات يوم، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، فإن إله السلطة الحديثة، وبالخصوص في المجتمعات الصناعية المتقدمة، هو «المال». وهذا يعني أن الناس تعرفه جيداً، وتعاني منه بشكل ملموس، وحسيّ، كل يوم، أو بشكل أكثر تحديداً، من الذين يملكونه. هؤلاء الناس المستاؤون من وضعهم هذا وبتعبيراتهم المتَحدِّية والعنيفة، كما يحدث الآن في «ثورة باريس» الملتهبة، إنما يريدون حصتهم منه، من المال العام، وهي إرادة عادلة. وهذه «الثورة البؤْرَوية»، هي تعبير صارم عن مطالبهم، بعد أن نفد صبرهم. فالمال كالسلطة والدين ليس ملكاً شخصياً لأحد. ولا يجوز أن يصير كذلك. وليس لأي كان الحق في أن يحتكره إلى الأبد، مهما كانت الأسباب والمبررات. ونحن نعرف أنها كلها ملفّقة ولا مقبولة.
هؤلاء الغاضبون، إذن، بعد أن تعذّر عليهم الحصول على ما يريدونه بطرق قانونية وسلمية، قاموا «بثورتهم ». فوجدوا أنفسهم في مواجهة غطرسة السلطة المهيمنة، وعنف بوليسها، فصاروا يريدون أن يدمّروا كل شيء.
هذه الحركة العارمة والمطالِبة بحقوقها هي «الشكل الجديد للثورة الإنسانية»، إذن. إنها «ثورة ما بعد حداثية». وأفضل تمثيل لها هو هذه الحركة التمرّدية التي تشعل باريس الآن.
وليس من قبيل الصدفة أن أول ما أرادوا تدميره هو الرموز التاريخية. فعندما يستاء الشعب من أوضاعه لا تعود ثمة حُرْمة لأحد، ولا قُدْسيّة. ولا يعود للأشياء مكانتها القديمة نفسها، التي كانت تتمتّع بها في حالة السلم الاجتماعي، أو في حالة «خمود الحياة السياسية» بالأحرى، كما حصل في سوريا خلال أربعين عاماً. ومنذ أن تنفجرت عند الناس مشاعر الرفض للوضع الذي لم يعد ُيحتَمَل، يصير لكل شيء، بما في ذلك السلطة التي كانت حتى الآن آمنة، وجْه آخر وبُعْد جديد. وستبدو، تلك السلطة التي كانت محترمة ومرموقة، ستبدو هذه السلطة نفسها، قميئة، ومهترئة، وغير جديرة بالاحترام. وأكثر من ذلك، لا علاقة لها بالناس الذين تحكمهم إلا بقَدْر ما يخدمون مصالحها. وهو ما يمكن أن نسميه، اليوم، في هذه الحُقْبة التاريخية، بـ»العبودية الجديدة».
هذه الحركة العارمة والمطالِبة بحقوقها هي «الشكل الجديد للثورة الإنسانية»، إذن. إنها «ثورة ما بعد حداثية». وأفضل تمثيل لها هو هذه الحركة التمرّدية التي تشعل باريس الآن. فكما أن الحروب صارت «بؤرَوية»، وليست عالَمية مثل حروب القرن العشرين، فإن الثورات هي الأخرى تغيَّرت، فصارت محدودة جغرافياً، لكن أبعادها عالمية بامتياز. ومعنى كونها «ثورة جديدة»، هو أنها لم تعد تقطع الرؤوس، وإنما تفضح سلوك السلطة الماكر، وتندِّد بالظروف الجائرة وتحاول تغيير الأوضاع التي تجعل حياتها أكثر بؤساً. وفي الوقت نفسه، تُبْدِع أفكارآً جديدة وأوضاعاً، أو بمعنى آخر تحرِّك مستنقع الحياة الراكد، وتجدد مياهه. فالحياة التي لا تثور تأْسَن وتَتَسَمَّم.
وقبل أن نفترق أحبّ أن أُذكِّر بأن بعض المثقفين العرب الذين يعيشون في الغرب، وهم ليسوا فيه، لأن علاقاتهم الحميمة اجتماعياً وسياسياً ومعرفياً مع أنظمة ودول أخرى تستوعب نشاطهم الثقافي وأفكارهم منذ سنين، هؤلاء الجَهَلة وصفوا جماهير باريس الثائرة بالرعاع، أو بأوصاف أقرب إلى هذه الكلمة البذيئة التي لا يستعملها إلاّ ألْسِنَة السوء، ونقّارو الصحون، مادية كانت أم فكرية. هذا الوصف المجحف للثائرين لا يدلّ، في الحقيقة، إلا على وَعْي هؤلاء القائلين المسَطّح، عدا عن كونه يفضح اعتقادهم التعيس بأنهم إنما يدافعون، بقولهم هذا، عن «الحضارة». وكأن الحضارة مخبّأة في القصور والتماثيل وهي في مكان آخر. الحضارة ليست صيغة مجرّدة، ولا هي صُور منذورة للعرض وأهميتها تكمن في تاريخ إنجازها، وليس في حالتها الراهنة، إنها مسارات الشعوب التي دافعت وتدافع عن حقها في الحياة، وعن حظها في التطوّر والارتقاء. شعوب لا تخشى أن تعبِّر عن استيائها العميق بما يلائمه، عندما يتعلّق الأمر بوجود أفضل، لكن التبجّح، أحياناً، أقوى من العقل.