يحب نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن يرى نفسه ثاني أعظم شخصيّة في التاريخ اليهودي، ملكاً معاصراً، ربما كان متأخراً فقط عن النبي موسى!
وبالطبع فإن «الشيزوفرينيا»، وما تأتي به من صيغ التوّهم ليست ظاهرة نادرة في عالم السياسة، بقدر ما قد تكون هي الأساس في كيان نسجت خيوطه من أساطير منحرفة من التفوّق، والاستعلاء، والعنصريّة، وامتلاك الصلاحية من «الربّ» لإبادة شعوب المنطقة.
على أن هكذا أوهام، في حالة «ملك الحالي» معاصرنا، ليست نتاج جرعة زائدة من الحشيش، أو مبالغة منه في استهلاك المشروبات الكحوليّة، وإنما حصاد طبيعيّ لتورط تاريخيّ للغرب في تبني الفكرة الصهيونيّة، حتى قبل تأسيس الحركة الصهيونية الحديثة.
وهذا وحده يفسّر ذلك الاحتفاء الاستعراضي المبالغ به من كونغرس دولة العالم الأعظم بخطابه، الذي لم يكن يكاد ينتهي من لفظ كل ثلاث أو أربع كلمات من كلمته المتخمة بالصلف إلا كان نواب الأمّة الأمريكيّة قد وقفوا أمام شاشات التلفزيون العالمية مثل قرود مدربة للتصفيق الحاد المستمر الذي لا يقطعه سوى إشارة من يد المخرج الفنيّ للحدث المسرحيّ المبتذل!
عاد من «الكابيتول-هول» منتشياً. وهذا الانتشاء لا يبلغ ذروته في عقيدة الكيان إلا بالعربدة وسفك الدّماء، فكانت الهجومات الاستفزازيّة لاستهداف قادة رفيعين في حركات المقاومة، عسكريين وسياسيين، بمبرر مزعوم أو بدون مبرر، ضارباً عرض الحائط بكل (سيادة) ولو شكلية تحتفظ بها أنظمة المنطقة السياسية، قبل أن يلحقها في نهاية نهار احتفاله بتمام ثلاثمئة يوم من حرب الإبادة العلنية في قطاع غزّة بتصفية صحافي ومصور فلسطينيين عمداً، ولسان حاله يقول سأقتلكم، ولن أسمح لكم حتى بالحديث عن قتلي لكم!
سياسة المخاتلة: مفاوضات أم نصر كامل؟
ترددت هذه الإدارة في إدارة الحرب منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بين سياستين متوازيتين: أولاهما تقوم على العزم بتدمير (حماس) ومسح الطبقة القيادية فيها – ومن ذلك استهداف الضيف والسنوار – وإزالة القدرات العسكريّة التي تمتلكها عبر إطلاق حرب قاسية على قطاع غزّة المحاصر بأحدث منتجات مصانع القتل الغربيّة وبدون حساب لأي دماء قد تهدر، أو اكتراث بأي تقريع قد يسمع.
فيما ثانيهما تقوم على التفاوض الدبلوماسي، وعبر الوسطاء في الدّوحة، والقاهرة، وباريس، وروما، وهذه تحديداً كان يقودها من جانب (حماس) الشهيد إسماعيل هنيّة.
لكن الجليّ أن سياسة التفاوض لم تكن سوى غطاء مموه لمنهج الإبادة، ولعبة لامتصاص أي امتعاض عالمي من ذبح الأطفال وتجويع النساء وهدم المستشفيات.
وبعدما تيقن نتنياهو من أن لا أحد سيفعل شيئاً من أجل الفلسطينيين، كان اغتيال الشهيد هنيّة يوم الأربعاء في قلب طهران، بمثابة إعلان مخضب بالدّم عن قراره بإنهاء مسار التفاوض، والسير قدماً بحرب الإبادة وتصفية قضية الشعب الفلسطيني إلى منتهاها. وهذا قرار لا يبدو قد أخذ كعفو الخاطر، إذ شاهدناه على الشاشات الأسبوع الماضي بينما يزور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب – والمرشح القوي لتولي المنصب مجدداً في كانون الثاني/يناير المقبل – مرتدياً قبعة بيسبول كتب عليها «النصر الكامل».
«النصر الكامل» في منطقه، الذي يقبله الغرب هو «انتصار الحضارة اليهودية – المسيحية ضد (الهمجية)» حسب قوله، وهذا أمر لا يتحقق بالتفاوض لإيجاد طرق لوقف سفك الدّماء وإيصال الإمدادات الغذائية للسكان وإطلاق سراح الأسرى، وإنما بالقتل والإلغاء.
وهذا عندما يخاطب الغربيين بسحق (الهمجية)، فإنما يحدثهم بلغتهم التي يفهمون: ألم تتأسس الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا جميعها على مبدأ إبادة (الهمج) سكان البلاد الأصليين؟ وهل قامت الإمبراطوريّة البريطانية إلا على جثث الشعوب (الهمجيّة) من الهنود والصينيين والأفارقة والعرب والإيرلنديين، وهل نسي العالم مذابح فرنسا لـ(همج) الجزائر، ومذابح بلجيكا لـ(همج) الكونغو، ومذابح إيطاليا لـ(همج) الحبشة وليبيا؟ إذن فالإبادة ستكون مصير (الهمج) الفلسطينيين!
مواجهة الكيان
لقد عمل الغرب بشكل ممنهج طوال الخمسين عاماً الماضية على ضمان تفوّق الكيان العبري على محيطه الإقليمي، متخذاً لذلك طرقاً وأساليب متنوعة: عبر تمكينه عسكرياً وتقنياً واقتصادياً، ولكن أيضاً عبر تفتيت الجغرافيا المحيطة به، وإضعافها عسكرياً واقتصادياً.
وهذا انتهينا بعد تحييد مصر، واحتلال العراق، وتفكيك سوريا، وتقسيم ليبيا، وكسر لبنان، وحصار إيران، واستيعاب تركيا، إلى فضاء جيوبوليتيكي طويل عريض، يمتد من قلب سهوب أواسط آسيا إلى أطراف صحراء أفريقيا الكبرى، لا توجد فيه قوة حقيقية واحدة قادرة على مواجهة عربدة هذا الملك عندما يشاء أن يعربد.
لكن هذه الهيمنة المصنوعة – بسلاح وأموال غربيّة – لجسم أجنبي سرطاني مزروع في قلب المنطقة، لا يمكن – بحكم التاريخ – أن تكون سلاماً تاماً ونهائياً للمتفوق الدخيل على الخاضعين. فالشعوب المتعاظمة عدداً (500 مليون بين عربي وتركي وإيراني وغيرهم) في محيط الكيان المجهري (11 مليوناً ليسوا جميعهم يهود) تعيش في ظل دول أقرب إلى الفوضى منها إلى النظام، محرومة من فرص الترقي والتقدم والأمن والأمل، ما يجعل من هذا الشرق بحراً يموج بالبؤس والفقر والعنف والحقد والحزن، وستكون دورة القتل والإبادات، التي يديرها الكيان العبري بمثابة وقود نووي لإذكاء غضب الخاضعين إن هم استكانوا يوماً لخضوعهم. ولن تقتصر هذه العداوات حتماً على حدود الإقليم، بل ستتمدد نيرانها لتصل إلى كل جوار وأولها الجوار الأوروبي المسموم أصلاً بعنصريته البغيضة، وانقساماته الثقافية.
الآتي سيئ للجميع
إن حماية الغرب للعربدة الإسرائيلية لن تجلب إلا قادماً سيئاً للجميع وستستدعي مزيداً من الدماء والآلام، ليس لشعوب المنطقة المحيطة بالكيان فحسب، وإنما أيضاً لمواطني الكيان العبري ذاته. وفي غالب التقدير أن أول من سيدفع الثمن سيكون الفلسطينيون في غزة الذين ستستكمل دورة إبادتهم بلا سقوف، لكن إغلاق باب التفاوض يعني أيضاً بشكل أو آخر نهاية طموح الأسرى الإسرائيليين بالتحرر أحياء في وقت قريب، وسيستمر جنود الجيش الإسرائيلي أيضاً بالتساقط قتلى وجرحى ومعوقين ومرضى نفسيين، وسيكون على أنظمة وتنظيمات المنطقة ضغوط هائلة لاستهداف الكيان أقله لرد الاعتبار وامتلاك الشرعيّة للاستمرار، وقد تنتج هذه الأجواء المضغوطة انعكاسات في دول نجت حتى الآن من حلقة النار، مثل الأردن ومصر، ولن يضمن أحد ألا يصاب أفراد بلوثة القتل هذه فتنتقل حتى إلى الغرب ذاته.
الذين وقفوا يصفقون في الكونغرس، كانوا يصفقون للقاتل، ويشحذون له شهوته للدم. فمن «الهمج» اليوم إلا أنتم؟
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن