إنه الاستعمار يا غبي

حجم الخط
11

بمعزل عن صراع الأحبة العرب وعن أسبابه الحقيقية وبمعزل عن وجهة نظرنا نحن كعرب بقضايانا وصراعاتنا يهم ربما من وقت لأخر الالتفات إلى دور الخارج غير العربي في صراعاتنا. فحتى لو سلمنا أن الربيع العربي عبارة عن ثورة داخلية قامت بها شرائح اجتماعية لم تعد تستطيع بتطورها وبصلتها بمفاهيم ومبادئ العصر ان تتحمل سلطات باغية مستبدة تنتمي إلى عصور غابرة، فإن هذه الفرضية لا تحجب الأدوار الخارجية المتداخلة أقله مع الأدوار الداخلية.
الخارج الذي يعبث بثوراتنا دعماً ومحبةً وإنسانية وأخلاقاً عليا لا يقول عادة أهدافه. أي مطلع على تاريخ المستعمرين يستنتج بسهولة درس الاستعمار الأول: التقدم المقنّع. قناع يحجب حقيقة ما يريد. ولكي ينجح في مهمته يلجأ الاستعمار دوماً إلى إلباس أطماعه الأرضية، إذا جاز القول، ثوب المهمات السماوية والإنسانية أو الأخلاقية. فالاستعمار كما يقدم نفسه لا يطمع بثروة ولا بأرض ولا بمياه ولا بمرعى بل بتمدين المتخلف وتحضير البدوي وتديين الكفار وأنسنة البربري الخ. ولا أظن أن التاريخ في هذا الشأن قد تغيّر فجأة.
فالمستعمر المودرن الحالي لن يقول لنا أبغيكم لغازكم ونفطكم ولكل ثرواتكم الدفينة وغير الدفينة. لن يقول لنا بالطبع أن موقعنا على الخريطة الجيو سياسية لذيذ. لن يقول أن ممراتنا المائية والبرية والأنبوبية ضرورة للمنافسة الدولية المستعرة. لن يقول لنا بالطبع أن السيطرة على كل هذا حاجة موضوعية لصناعته وتجارته وزراعته وطعامه وشرابه وتدفئته. لا أبداً. سيقول لنا وللعالم أنه هنا لكي يساعدنا على التمدن بمعناه العصري اليوم. إنه هنا ليساعدنا على تعلم الديمقراطية وكيفية إرسائها عملياً.
إنه هنا لأسباب محض إنسانية. فقد يكتشف فجأة أن من مدّه بأسلحة ممنوعة قد استعملها، يا للهول. ألم يكن بعض الغرب هو من سلّح صدام حسين بالأسلحة الكيماوية التي حوكم بسببها وأدين من قبل محكمة ‘عادلة’ ووفقاً للقوانين المرعية الإجراء؟ ألم يكن هذا البعض الغربي نفسه من اضطر لتأليف معزوفة وجود أسلحة تدمير شاملة لكي يحتل العراق ؟ بعد الاحتلال لا مشكلة كبيرة فضعف الذاكرة يقوم بمحو ما حصل ونسيانه بواسطة فرض مشاكل جديدة مقلقة إلى حد تجعل مجرد التفكير به متعة فكرية لا تتوفر لأي كان..
برنار كوشنير برنار آخر كذلك- وزير خارجية فرنسا الأسبق والمسؤول عن نظرية ‘مشروعية التدخلّ الإنساني’ في كل مرة يقع شعب ضحية استبداد ما في الدول التابعة من صدفة- صرّح هذا الأسبوع للتلفزيون الفرنسي بالحرف: ‘طبعاً الهدف من الضربة هو إسقاط الأسد في سوريا. لكن يجب إلباس هذا الهدف ثوبه الدبلوماسي’. زحطة كلامية ولا شك. على أي حال فالرجل لم يشتهر يوماً بألمعيته.
الاستعمار لا ينتظر فرصة لكي يبرر لنفسه أي حاجة لتدخّل إنساني. فهو يخترعها إذا لزم الأمر. يلبسها ‘دبلوماسيا’ ما يريد على حد زحطة البرنار الثاني. المستعمر لا يضربك قبل إقناعك بأهمية الضربة بالنسبة إليك. يعمل وفق قاعدة تجعل المضروب نفسه محتاجاً إلى الضربة. تصير وكأنها حاجتك أنت. ترجوه لكي يقوم أخيراً بها. وبينما يصرح هو بأن الضربة قد تكون محدودة يقوم المضروب بأوسع حملة شعبية لكي لا تكون محدودة، أو ‘متل قلتها’ على حد قول أحدهم.
لغة المستعمر لا تخفي من جهتها شيئاً من عقليته المتعالية. المستعمر مقتنع فعلاً بدونية المسيطَر عليه. يقول وزير الخارجية الأميركي في تصريحاته الأخيرة شيئا مهماً لم يثر انتباه المراقبين المشدودين إلى الضربة وإمكان حصولها. قال إن استعمال الكيماوي من قبل النظام السوري ثابت ويجب أن نعاقبه. نعاقبه قال. العقاب سلوك المعلم ففيه مصلحة للمعاقَب. وأضاف، وهو قاضٍ، المدعي العام السابق، أنه لو حصل وجاءه هذا الملف لكان أصدر حكماً وجاهياً ومباشر. تسقط القوانين والأعراف وفصل السلطات والصلاحيات عندما يقرر المعلم العقوبة. فكيف رضي الصحافيون في الغرب أن يحكم ‘قاضي التحقيق’ بدل قاضي القوس كما يقال بلغة القانون ؟ ألا يسمى هذا محاكمة ميدانية في عرف القانون الغربي نفسه ؟ لكن من يحاكم المعلم ومن يعاقبه؟ فهو الخصم والحكم.
من’شيم’ المستعمر أن ‘يفرض’ رأيه. لا يناقش ولا يحاور. يحتكر الكلام ولا يترك أي مكان ‘للرأي الآخر’. يحتكر الاستعمار الموضوع ويحتكر ‘الرأي العام’ كما لو كان ملكاً شخصياً. حتى لو كان هذا الرأي العام مخالفاً بالرأي
له تماماً كما هو حاصل اليوم في بلاد المعلم الملقن. يرفض المؤسسات وكل قوانينها إذا لم تخضع له. لا يرفّ جفن للرئيس الفرنسي المنتخب ديمقراطياً وهو
يصرح بأننا قررنا الذهاب إلى الضربة والحرب بدون الحصول على موافقة مجلس الأمن. وكأن النظام الداخلي المعمول به في هذه المنظمة الدولية موضوع بالأساس لكي لا يطبق. أما إذا حدث وطُبق القانون ولم يوافق المجلس على ‘العقوبة’ فيتم تجاوزه بكل ديمقراطية وأريحية استعمارية.
يشيطن عدوّه بحيث يصعب على أي كان أن يطرح أسئلة عقلانية حول الموضوع. لغة الاستعلاء الاستعمارية ذاتها في كل زمان ومكان. فمن منا لا يعلم بان أكثر من استعمل الأسلحة الكيماوية والفسفورية في العالم هو الولايات المتحدة الأمريكية.
الشيطان هو الصغير. وبصرف النظر عن حقيقة هذا الصغير بالنسبة إلى شعبه فإنه يصبح شيطاناً فقط في تلك اللحظة التي يضطر المستعمر أن ‘يلبس إسقاطه’ ثوباً دبلوماسيا.
الطامع في ثروات الآخر لم يحرر شعباً في يوم من الأيام. ولم يكن إنسانياً في أي يوم. ولا ديمقراطياً. ولا رؤوفاً ولا حنوناً. إنه الاستعمار فلا تغلطنّ.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Refugees:

    رؤية مثل ضوء الشمس لكل الصادقين ولكن ما اكثر المنافقين فينا. متى يستيقظوا هؤلاء الاغبياء?

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية