إهـــــداء

تمارا محمد
حجم الخط
14

إهداء1

اعتاد باسم في تمام الساعة الثامنة صباحاً أن يسلك الشوارع ذاتها مشياً على الأقدام متوجهاً إلى المحل الخاص به على زاوية الطريق الزراعي في منطقته، فهو الشيء الذي تبقّى له بعد رحيل والده، حيث كان يرافقه الذهاب إليه منذ الصغر ليعاونه بكل ما يختص بتقليم الأزهار وزراعة الجديد منها والاعتناء بها بلطف .يباشر باسم تسجيل ملاحظاته في دفتره عدد الأزهار المتبقيّة، الأشتال التي يرغب في شرائها، توزيع الورود لأصحابها. صوت الهاتف يُشير إلى ضرورة وضع القلم جانباً، يرفع باسم سماعة الهاتف :
بصوت منخفض «ألو صباح الخير باسم للأزهار «.
بحماس أجاب باسم : «نعم تفضلي»
«صباح النور بدي أوصي بوكيه ورد»
وبعد أن أطالت في وصف نوع الأزهار لونها والعنوان المرسلة إليه، أنهى باسم اتصاله بسؤال سريع.
الإهداء باسم مين ومن مين؟ وشو نكتب على بطاقة الإهداء»
أجابت بحيرة «الإهداء؟»
لاحظ باسم بأنه سيفقد الاتصال نظراً لعدم وضوح الصوت.
– «ألو ألو» يفقد باسم الاتصال، محاولاً استذكار بعض الكلمات المتقطعة التي التقطها أثناء المكــــالمة علّه يتمكن من الوصول إلى جملة واحدة مفـــيدة تضـــيف معنى لتلك الأزهار، إلّا أنه يقف عاجزاً أمام ذلك. يُباشر باسم رغم ذلك بتحضير باقة الأزهار وكأن هناك شيئاً يؤكد له بأن الإهداء حتماً سيصله بين الحين والآخر. يضع بطاقة الإهداء بدون إغلاقها إلى جانب الهاتف، مستكملاً أعماله اليومية في المحل.

أعلم أن رسالتي لن تغيّر حتماً من قرارك، كما وأعلم بأنه حينما تصلك رسالتي هذه ستباشرين بإغلاقها والصعود إلى الحافلة، لكن ليكن ذلك فكلماتي هذه لن تجد سبيلاً لإهدائها لكِ سوى من خلال شاشة الهاتف.

إهداء 2

الأجواء في الخارج تشير إلى اقتراب سقوط الأمطار، تحضر هالة مشروبها الساخن المفضّل متجهة نحو مقعدها المقابل للنافذة هناك حيث اعتادت الجلوس. ونحو السماء تُطيل النظر مستذكرة ما حدث معها في ذلك اليوم المشابه لهذا اليوم تماماً. تذكر أنها في ذاك اليوم قررت الخروج من المنزل غاضبة، بعد أن ضاقت بها سبل الوصول إلى الحل الذي دائماً ما يقال عنه «حل يُرضي الطرفين»، تذكُر أيضاً أنها حاولت أن تسلك كافة الطرق التي قد تؤدي بهما إلى ذاك الرضى بأقل خسائر ممكنة إلّا أنّها أبت وأبى أن يلتقيا معاً ليكملا سير الحياة على الطريق ذاته .أمسكت حقيبتها التي استطاعت أن تحمل فيها ما يمكن إنقاذه وبدون الالتفات إلى الوراء غادرت المنزل مودّعة خلفها تلك الحياة التي قررت التخلّي عنها وتركها بين جدرانه.
عند الموقف جلست تنتظر الحافلة تراقب ساعتها بحذر فمن يدري لعلّ الحافلة أيضاً قررت أن تخيّب ظنها وتغيّر اتجاهها في هذا اليوم . وبين الصوت الذي يشير إلى اقتراب الحافلة والركاب الذين قرروا التسابق للوصول أولاً يأتي صوت الهاتف لافتاً لها بوصول رسالة قصيرة، تهم بفتح الرسالة وهي تحاول النظر باتجاه الحافلة تارةً ونحو الرسالة تارةً أخرى.
«أعلم أن رسالتي لن تغيّر حتماً من قرارك، كما وأعلم بأنه حينما تصلك رسالتي هذه ستباشرين بإغلاقها والصعود إلى الحافلة، لكن ليكن ذلك فكلماتي هذه لن تجد سبيلاً لإهدائها لكِ سوى من خلال شاشة الهاتف. «إهداء لكِ وله أولئك من لم تحالفهم الأيام على استكمال حياتهم معاً وخالف الواقع ما رسموه لمواجهتها. من قال بأننّا لم نصل إلى الطريق الذي يرضي الطرفين لقد وصلنا يا سيدتي، لكن وقف كل منّا على المفترق الذي لربما سيأخذه إلى وجهة مختلفة أو يفاجئه في نهاية المطاف بالوصول إلى طريق الالتقاء مجدداً، بعد أن ظنّ بأن المفترق فراق وليس لقاء بصورة مختلفة». تختفي الرسالة فجأة تحاول بلمسات عشوائية فتحها مجدداً إلا أن بطارية الهاتف كانت لها الكلمة الفاصلة تستقل الحافلة تجلس في المقعد مواصلة النظر إلى شاشته السوداء.

إهداء 3

بصوت مرتفع تدخل المعلمة الصف «صباح الخير»، تمسك القلم وبخطوة سريعة تكتب على اللوح العنوان «إهداء». تنظر نحو سامي تطلب منه ترك المقعد والتقدّم نحوها مخاطبةً له «قم بتوزيع تلك الأوراق على زملائك»، يأخذ سامي الورق بحماس ويوزعها على زملائه ولا ينسى ورقته يمسكها ويعود لمقعده. تستكمل حديثها «في هذه الورقة سيكتب كل شخص منكم إهداء في (فقرة، جملة ، كلمة) وأنتم تمنحون حروفها ثقة الوصول إلى الشخص المقصود». تأخذ ورقة بيضاء «وأنا أيضاً سأشاركم تلك اللحظة الصادقة». وجوه الطلاب كافية وحدها لتمنحك عند النظر إليها صدق الإهداء ووجهته قبل أن يُكتب! هدوء صامت يسكن الغرفة تكسره حركة الأقلام التي استطاعت أن تجتمع على علامة مشتركة واحدة «كلمة». بعد مرور نصف ساعة وقبل انتهاء الوقت، يباشر سامي بجمع الأوراق وتسليمها لها بينما هي تقوم بتسجيل مجموعة من الملاحظات على دفترها. تقاطع يد سامي وهي تمُد الأوراق لها كتابتها. تُمسك ورقتها وتضمها إلى باقي الأوراق. قبل أن تغادر الصف تبدأ بعدّ الأوراق ورقة تلو الأخرى وحينما تصل إلى الرقم الأخير تنظر باستغراب نحو الطلاب قائلة:
هناك إهداء ناقص من لم يُنهِ الكتابة بعد؟ تلاحظ بأن السؤال لن يحصل على إجابة حتى وإن عاودت طرحه مجدداً .
تنظر نحو الورق وبصوت هادئ لا يُسمع تخاطب نفسها «هناك دوماً إهداء مفقود اختار صاحبه الاحتفاظ به ولربما تسانده جميع الموجودات على تلك الرغبة بإخفائه وكأنها تعلم بأن الحروف أحياناً عليها الاحتفاظ بنفسها لنفسها». تمسك الممحاة تمررها بخفة على العنوان المكتوب على اللوح وتخرج.
الإهداء هو ذاك الشيء الذي لربما اخترت أن تخطّه قلماً أو أن تنطقه حرفاً أيّاً كان طريقه الذي انتقيته ثِق تماماً بأنّه وإن استطاع الوصول بنجاح إلى الوجهة المطلوبة أو أضاعها أو كانت وجهته مجهولة منذ البداية فهو تلك الكلمة التي سجّلت صدقها وبقوة مهما فقدت طريقها .

٭ قاصة اردنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل مطران:

    نتمنى من الأخوات المشاركات في التعليقات هديل وسيرين وريتا ورسيلة ومنى ومنتهى المشاركة في التعليق على الموضوعات التي تخص المرأة بصفة عامة

  2. يقول Nisreen Mns:

    جميلة جدا النهايات المبهمة والتي تفتح مجال للقاريء ان ينهيها بما يجول في خاطره من نهايات تجارب مرت بحياته ,,,
    مزيدا من التقدم والنجاح ابدعتي

  3. يقول Muntaha alazzeh:

    فلاشات مؤثرة تستحق التوقف ، التسليط القصصي على الجوانب السلبية التفسية التي تعاني منها معظم النساء بالعالم قد يؤسس لوعي اكبر بالتعامل معها بالمستقبل ، تقديري لك تمارا

  4. يقول نابليون العربي:

    قصتك جميلة مثلك لكن الأجمل باقة ورود صديقاتك اللواتي يدعمنك ويشجعنك.تحياتي لصديقاتك الوفيات ياتمارا.أنت محظوظة بهنّ.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية