إيتيل عدنان «هناك»!

يفاجؤك في قصيدة إيتيل عدنان أولا تركيب الجملة الشعرية التي صممت الشاعرة منذ البدء على أن يكون مختلفا؛ يتقدم الاسم على الفعل، أو أنها تبدأ الكلام بظرف الزمان، أو الصفة، أو الموصوف، مع علامة استفهام تتكرر مثل نغمة تتواتر في موسيقى القصيدة: «هل مطلوب من الجبل أن لا يتحرك وهل على السماء أن تكون مفتوحة على وسعها؟» وتعود هذه النغمة، ويتألف منها تساؤل جديد، وجودي وفلسفي وجمالي في الوقت نفسه، لكن ما يخفف كل هذا الكم من المعنى هو شكل القصيدة السمح، والبراءة العجيبة التي تحافظ عليها الشاعرة على طول الخط:
«إلى أين سنذهب عندما تنطفئ الأنوار ويبدو أننا متشابهون؟».
هو سؤال يطلقه الطفل والشيخ الحكيم، وتجتمع في قصائد إيتيل عدنان هذه الروح التي تجتمع في روحها البداية والنهاية، الوجود والعدم، الأعلى والأسفل، الحياة والموت.. وإلى آخر المتناقضات الغريبة التي تتكون منها حياتنا، ويشمل هذا الموجودات أيضا، فالحجارة والوردة شيء واحد: «هل تدري أنني هنا، مثل نهر، مثل سكين، أو أي شيء يمكن لك أن تشتريه وتأخذه إلى البيت» لا توجد علاقة أو آصرة تجمع بين النهر والسكين، ولا حتى في أعلى مراتب شعرية اللغة، لكن البراءة الناصعة التي تشع من الحروف منذ البدء، تجعل البحر ينتمي إلى النخل والقاطرة ودماء القتيل. إنها صوفية جديدة تدعو إليها الشاعرة بواسطة السؤال، وهذا يُطرح في القصائد بصيغة الجواب، أي أنه محلول ولا داعي لأن تتعب فكرك في البحث، أو تغلبك الحيرة في الاختيار، إنه الجواب السؤال الذي ابتكرته الشاعرة، ومن فرحتها بهذه العجيبة ظلت متمسكة بها ووفية لقانونها على طول الخط: «وكما ترى قد يحدث أن نمضي مثلما مضت الديناصورات، لكننا ما زلنا هنا».
تصنع البلاغة الشاحبة الشعر العظيم، مثلما كان يصنع بيكاسو من سكراب الأشياء أعمالا نحتية تزخر بالحياة، تلجأ إيتيل عدنان إلى فضلات اللغة ونفايات المعنى، وسقطات الفكر، وتأتي منها بالعجب، وبهذه الطريقة من صفاء الذهن تجاهد كي «تحرر العالم من خيباته». ثمة شعور مكثف بالفجيعة، الحرب تجري من حولها في كل حين، والزمان يشتبك مع المكان في معركة، تتحسسها الشاعرة وإن كانت تدور وتطحن النفوس في منابع الأمازون، أو في صحراء التتر الجليدية، تصلها صرخات الجنود الذين ينزع أحدهم حياة الآخر وهي تواجه فنجان القهوة في بيتها، ترسم، وتتناقش مع صديقتها، وحين تحضر جلسات السهرة في مقهى بوغاتي، لا فرق. الوعي الشديد بالمأساة يختصر المسافة، ويلغيها. «دماغي يفوق في حدته قمر الراديو الصناعي. لا حاجة لي بالسفر إذا ما أردت أن أزور شوارع مدينتي التي اختفت». وكأن الشاعرة تتلبسها روح الطائر الخرافي الذي يعيش في مكانين في الوقت ذاته. هنا، وهناك، إلى الماضي الذي تغرق نفسها فيه بحثا عن «التحول» ربما إلى «ربة فراشة» أو إلى نهر أو حجارة أو وردة.
إننا نحتاج إلى أن نضع حجارة بدل الفؤاد، كي نحتمل الضيم والجور والكفر في العالم: «الأحجار ليست هي النهاية، نهاية ماذا، نهاية من، نهايتك أنت أو نهايتي، وربما أنت فقط ثم فقط أنا، عندما لا يهم الأمر، فالأحجار هي البداية».

حتى لوحات إيتيل عدنان المرسومة على «الكانفاس» تحمل الرؤية ذاتها، كأنها ترسم الأرض كما تبدو من نافذة طائرة، مستطيلات من الألوان الخضراء والزرقاء تقطعها خطوط ولطخات بنية وبيضاء وسوداء.

المشاهد الظلامية التي خبرتها إيتيل في حياتها مذكورة بالتفصيل في مجموعتها الشعرية ذات العنوان الغريب «هناك» التي قام بترجمتها بنجاح باهر سركون بولص، تماهى مع الشعر إلى درجة يخيل إلى القارئ أن الكاتبة أتت لنا بلساننا، وهو فرق كبير عن ترجمات شاعر آخر، هو سعدي يوسف، الذي لا يستطيع الفكاك من صوته عندما يترجم لكافافيس وريتسوس وغيرهما. حافظ سركون على نقاوة الهمسة حين تصلنا من الشاعرة، من بعيد، لكننا نسمعها بوضوح شديد، كأنها جليسة معنا. ويمتح قلم الشاعرة من الذاكرة مآسِيَ لا تعد: أبٌ يردي ابنته قتيلة عن طريق الخطإ، وشرطة مسلحة بالهراوات والقفافيز والغازات وأوامر بإطلاق النار، هنالك مذبحة تمسح دماؤها كل شيء، ومن هذا الموت الشاسع تنهض الحياة العظيمة، بل إنه ينقيها من الشوائب، وتطلع الشاعرة نافضة وراءها الحطام برؤيا جديدة وخلق جديد وآلهة جديدة: «ما أجملك، أيها الشاب يا صاحبي، ليس بوسع عيني أن ترياك، لفرط شحوبك يضيء شحوبك بيتي».
في الحرب العراقية الإيرانية عملتُ مرة بما يدعونه «طبيب القطار» حُورتْ جميع «الكرفانات» كي تكون ردهات في مشفى؛ وكان معي طاقم من المضمدين ورجال الحراسة والخدمة. على متن القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد أكثر من 300 جريح، أُجريت لهم عمليات جراحية مختلفة، استخراج شظايا وطلقات من البطن والصدر والرأس، أو عمليات بتر الأطراف، وهنالك حالات حروق، وتسمم، وإلى آخر ما نقاسيه من جراء الحرب، الوحش المخيف لكن الجميل ومشرق الوجه في نظر البعض.
انطلق القطار من مدينة البصرة في الخامسة عصرا، وكنت عملت مع فريقي الطبي في جولة شاملة، دونت أرقام الجرحى الذين تهشمت أبدانهم، وهذا يعني متابعة متواصلة لهم، الذين إصاباتهم أقل، يحتاجون إلى رعاية تتواصل كل ساعتين، أو كل ساعة، أو أقل، أما الجنود الذين استقرت حالتهم، فإن أوقات تعاطي العلاج كافية. المساء يبلغ قطار جرحى الحرب مبكرا، وسوف يدوم اثنتي عشرة ساعة وثلاثة أرباع الساعة. جندي قصير القامة مثل صبي، وجرحه في نهاية قدمه، وملتئم، لكنه كان شاحب الوجه، ولم أنتبه للضوء الذي كان مصدره المعاناة في وجهه، إلا عندما جاءني مساعدي بهذا الخبر: الجريح رقم 234 توفي! كان الفجر في النوافذ مسيلا بنفسجيا، وعجينة ضوء الصباح تختمر. أنا متأكد أن قلبه توقف بسبب حزنه على مصير الجنود الذين ضمهم تراب المعركة. اشتد الألم في قلبه، وظل يشتد ويشتد إلى أن تبخر الخافق كليا. أي ضوء أنار المكان لحظتها؟
«انظر إلينا، رغم أننا لا ندري إلى من نتكلم، ليس عليك أن تعرفني، عندما تهب الريح تأتي إلينا بجمالك الأثيري، قبل أن يفوت الأوان».
وهل يحدث أن يفوت الأوان؟ عنوان المجموعة الشعرية «هناك» أي في المكان الآخر، البعيد، القريب. يمكننا النظر إلى الموت نظرة فنية، فيبدو جميلا، لأنه يحدث – هناك- كان الجندي الشاب ينظر إلى نقطة تقع ـ هناك – وكانت عيناه أكثر سوادا وجمالا من أي عينين سوداوين شاهدتهما في حياتي. عتمة الروح هنا، بسبب الكمد، ربما صارت ضياؤها هناك:
«وأنا في عجلة من أمري، ألست أنت كذلك، أنت من لا أستطيع أن أسميه امرأة أو رجلا».
هناك تختلف أجناسنا، حتما، وأنواعنا، وألواننا والألسن والأفئدة. يستطيع الفن أن يحيل العدم في الوجود إلى ضده، وبإمكانه أن يكشف ما يجري هناك.
«ألم أرافقك إلى ملكوت الأموات، ألم نحاور الأشباح، بعضا ممن نعرفهم والبعض الآخر ممن لا نعرف».
لا يمكن أن تكون نهاية الجندي جميل المحيا الموت، في صدى الحياة والأشياء، كما أن في نظرته الراسخة ما هو أكثر من حياة، ولم يستطع الظلام الرطب بصورة غير طبيعية في القطار أن يمتص صورة وجهه الأبيض الحنطي اللون، ويحولها إلى ضباب جاسٍ. تتحدث الشاعرة عن البيوت المبنية -هناك: «أنهار من المني والملح، ومنه أيضا يشيدون البيوت، هنالك، وهو مغطى بالنابالم والعلم الأمريكي». هذه ليست لوحة سيريالية، بل هو المشهد الذي كان يتأمله الجندي، وكان فيه نوع من العزاء، يصاحبه شعور فريد بالتشفي.
حتى لوحات إيتيل عدنان المرسومة على «الكانفاس» تحمل الرؤية ذاتها، كأنها ترسم الأرض كما تبدو من نافذة طائرة، مستطيلات من الألوان الخضراء والزرقاء تقطعها خطوط ولطخات بنية وبيضاء وسوداء. لنا أن نتخيل الشاعرة وهي تهبط الآن في واحدة من التضاريس في اللوحة، وتخلق بواسطة الفن أرضا جديدة، وأنهارا وبحيراتٍ وغاباتٍ وبيوتًا وفنادقَ.. «هناك، في حرارة الغضب والتراب، سوف تستحيل الحجارة إلى أوراق».
أخيرا: تطلق إيتيل عدنان سؤالها الرهيب:
«هل ما زلنا أحياء عندما نكون قد متنا؟».

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Najlaa:

    Great article Thankyou.

إشترك في قائمتنا البريدية