إيران أنقذت الجميع وأضرّت بغزة!

العالم كله مستفيد من «العركة» الغامضة بين إيران وإسرائيل، إلا غزة تضررت.
يستطيع المتحمسون لإيران الدفاع عنها بالقول إنها أكثر مَن قدّم الدعم لحماس ولفصائل المقاومة الفلسطينية، ومعهم حق إلى حد بعيد.
لكن وقائع الأسبوعين الماضيين، أثبتت أنه أنقذت الجميع، وعلى رأسهم إسرائيل، وأضرَّت بغزة. خططت لذلك أم لم تخطط، شاءت ذلك أم أبت.
«العركة» ألغت الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية واعادت توحيد مجلس الحرب الذي أوشك على التفكك. أراحت ساسة الغرب والعرب والإعلام بأشكاله وألوانه من اللوم ومن الشعور بالخجل والعجز أمام ما يجري في غزة.
قادة إسرائيل السياسيون والعسكريون يعيشون حاليا أفضل أيامهم منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بفضل إيران. إنهم سعداء مرتين، واحدة لأن إيران أنقذتهم من مأزق داخلي ودولي غير مسبوق، وأخرى لأن طريقة إيران في إنقاذهم لطيفة وغير مكلفة كانت عبارة عن مسيّرات وقف العالم ينتظر وصولها كأنه يترقب عودة مركبة فضائية أمريكية أو روسية من مهمة في القمر.
أتعب هذه الأيام بحثا عن أخبار غزة في كبريات وسائل الإعلام الدولية فلا أجدها. سيل جارف من التقارير والتعليقات عن إيران وإسرائيل، مقابل لا شيء عن غزة لأن «العركة» أبعدتها عن دائرة الضوء.
بسرعة هائلة غابت معاناة سكان القطاع المنكوب عن عناوين الأخبار الغربية وحتى العربية كأن إسرائيل أوقفت القتل وسحبت جنودها وآلياتها من القطاع. بينما الواقع أكثر سوادا، إذ منذ «الوعد الصادق» الإيراني واصلت آلة القتل الإسرائيلية الدوران في غزة بقتل ما معدله 40 شخصا في اليوم، وفق أكثر التقديرات تواضعا. وفي هذه الأثناء تخلت إسرائيل بهدوء عن التسهيلات المتعلقة بالمساعدات الإنسانية التي أُجبرت عليها إثر جريمة قتل المتطوعين السبعة، وعادت إلى سياسة التجويع. كما يلوح في الأفق احتمال شن هجوم على رفح حيث يتكدس نحو مليون ونصف المليون شخص أعزل. كما تشير تقارير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ينشر المزيد من المدفعية وناقلات الجنود المدرعة من حول رفح استعدادا للانقضاض عليها.
لن يطلب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أكثر من هذه الأزمة مع إيران ليستعيد عافيته السياسية المفقودة. يدرك نتنياهو أكثر من غيره أن مصيبته في استمرار تدفق صور القتل والموت من غزة. وواثق أن انشغال العالم بإيران وغياب صور غزة عن شاشات العالم وعناوين الأخبار، يثمر بالضرورة تراجع اللوم والغضب والانتقادات الدولية له ولجيشه.
الهجوم (الرد) الإيراني العجيب على إسرائيل حوّل مجرم حرب كان على حافة الإفلاس والسقوط داخليا وخارجيا إلى بطل قومي يحمل على عاتقه حماية بلاده الوديعة من الخطر الإيراني المحدق بها.
ولأن الرسالة وصلت، كان على نتنياهو وفريقه رد الجميل، فسارعوا إلى هجوم (رد) على إيران محسوب ومدروس يليق بجميلها.

الهجوم الإيراني العجيب على إسرائيل حوّل مجرم حرب كان على حافة الإفلاس والسقوط داخليا وخارجيا إلى بطل قومي يحمل على عاتقه حماية بلاده الوديعة من الخطر الإيراني المحدق بها

من المستبعد أن إيران تعمدت إنقاذ نتنياهو، بل ليس ضروريا أصلا التكهن في هذا الاتجاه، لأن لا فرق بين أن تتعمّد ارتكاب خطأ فادح أو التسبب فيه بقراءة سياسية واستراتيجية خاطئة لواقع ما، في النهاية النتيجة واحدة. في العلاقات الدولية العمى السياسي والاستراتيجي مرادف للنية المبيّتة. هذا هو حال إيران مع غزة ونتنياهو.
من المستبعد أيضا أن البلدين اتفقا على هذه النهاية لـ«العركة». لكن ما ليس مستبعدا على الإطلاق أن الطرفين أدَّيا المطلوب منهما بإتقان يليق بحرص المخرج الأمريكي وشروطه.
لقد أثبتت وقائع الأسبوعين الماضيين أن إيران وإسرائيل ليستا في حالة حرب، حاليا على الأقل، بقدر ما هما في رحلة بحث عن تسجيل نقاط وتعزيز مواقف إقليمية ودولية.
بلغة الربح والخسارة، إيران هي الخاسر (فقدت عددا من كبار قادة الحرس الثوري في هجوم القنصلية وقبلهم آخرون في عمليات إسرائيلية منفصلة). ورغم ذلك يفضّل الطرفان أن يقال عنهما إنهما في وضع «رابح رابح» لأن المكاسب من وراء «العركة» على المديين القريب والمتوسط تستحق المغامرة وتغطي على الخسائر: لا بأس أن «تستقبل» إسرائيل عددا من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية إذا كان ذلك سيُنسي العالم غزة ويغسل قليلا من عارها العسكري والاستراتيجي والأخلاقي هناك. ولا بأس أن تفقد إيران حفنة من قادة الحرس الثوري وتستقبل لاحقا عددا من المسيّرات والصواريخ الإسرائيلية إذا ذلك سيضعها في نديّة مع إسرائيل ويُظهرها في صورة الضحية التي تمتلك القدرة على ضبط النفس رغم أن في استطاعتها رد الصاع صاعين.
لسوء حظ سكان قطاع غزة أنهم قرابين رحلة بناء صورة جديدة هنا وترميم صورة يغمرها العار هناك.
قد يسأل سائل وهل كان من الصواب أن تمتنع إيران عن الرد على نسف قنصليتها في دمشق؟
لا. من حق إيران، ومن واجبها، أن ترد لحماية صورتها وسمعتها المترنحة جراء هجوم القنصلية وغيره من الضربات الإسرائيلية التي طالتها. الرد بتلك الطريقة الاستعراضية هو المشكلة. وكذلك التمهيد له تلميحا وتصريحا وإبلاغ وسطاء وأطراف ثالثة باقتراب موعده (وربما بحجمه ونطاقه). الأمر الذي حوّل الرد إلى عمل هواة كان من الواضح أن المسؤولين في طهران يخشون عواقبه وتمنوا في قرارة أنفسهم لو أنهم لم يضطروا إليه.
وقد يسأل آخر هل كان على إيران أن ترد بقوة وتهور فتشتعل المنطقة كلها ولا ينجو أحد؟ الجواب مرة أخرى، لا. ببساطة كان في استطاعة إيران ضبط النفس في هذه المرحلة ومواصلة استهداف إسرائيل عبر أذرعها المنتشرة في دول المنطقة. هذه الطريقة أكثر جدوى، فهي تفيد إيران وتؤلم إسرائيل وتزعج أمريكا أكثر من عمل عسكري مباشر. هذه الطريقة لن تضر غزة ولن تنقذ نتنياهو من وحله ولن تقدم أيّ خدمة مجانية لإسرائيل.
فوق هذا كله، أخشى أن ما فعلته إيران شجع على صفقة ما يجري طبخها بين إسرائيل وبعض القادة العرب تحت الطاولة تخص بيع رفح أو كل غزة. لا يوجد ظرف أفضل من هذا الحسم ما يصعب حسمه في ظروف أخرى، وقد برهن بعض العرب أنهم بارعون في الدسائس خصوصا إذا كانت برعاية أمريكية.

كاتب صحافي جزائري

بنيامين نتنياهو
ساسة الغرب
الخطر الإيراني
بطل قومي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية