موقفان كانا لافتين على صعيد دول منطقة الشرق الأوسط من أزمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده على الأراضي التركية، هما:
*الموقف الإسرائيلي الذي أصيب بالذهول من جراء تداعيات عملية الاغتيال وتأثيراتها السلبية على موقع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإمكانية خروجه من دائرة القرار في السعودية والمنطقة.
لعل المؤشر الأبرز على هذا الذهول، ما عبرت عنه الإدارة الإسرائيلية على لسان الكاتبة في صحيفة «هآرتس» تسفيا غرينفيلد، تدعو فيه لضرورة التساهل مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتقول: إنه «الزعيم الذي كانت تنتظره إسرائيل منذ 50 عاماً»، معتبرة أن «عزله سيكون مدمّراً بالنسبة إلى إسرائيل».
*الموقف الإيراني: الذي التزم الصمت شبه المطبق منذ الكشف عن اختفاء خاشقجي في الثاني من اكتوبر/ تشرين اول الجاري، وما صدر عن بعض المسؤولين الإيرانيين الرسميين لم يتعد الموقف الشكلي بانتظار جلاء المواقف وتداعيات الأزمة. إلا أن ما صدر عن الرئيس الايراني حسن روحاني يوم 25 اكتوبر يعتبر تطورا محسوبا في موقف طهران، وإن كان الأقسى ضد السعودية، إلا انه لم يخرج عن محاولة وضع الحادث في إطار الصراع الإيراني الأمريكي، إذ اعتبر روحاني «أن مقتل الإعلامي السعودي، جمال خاشقجي، لا يمكن وقوعه من دون دعم من الولايات المتحدة الأمريكية». مضيفا في انتقاد شديد اللجهة للرياض «إن مقتل خاشقجي يكشف طبيعة سلطات المملكة، وكأن هناك قبيلة تحكم دولة في السعودية، وتتمتع بدعم أمني، وترتكب مثل هذه الجريمة مستندة إلى قوة كبرى توفر لها الحماية ولا تسمح لأحد بالوقوف ضدها في المحاكم الدولية التي تقاضي مرتكبي الجرائم الإنسانية في العالم»، حسب وكالة الاأباء الايرانية الرسمية «IRNA».
وإذا ما كان الموقف الإسرائيلي أقل تعقيدا على فهم منطلقاته وأسبابه، فإن الموقف الايراني يبدو أكثر تعقيدا وتشعبا، إذ يتداخل فيه الكثير من العوامل والمخاوف من تداعيات هذا الحادث على الموقف الإيراني والمواقف المرتبطة بالوضع الايراني دوليا وإقليميا.
فإيران لا يمكن أن تطمئن إلى الإشارات الإيجابية، إذا جاز التعبير، الصادرة عن وزير النفط السعودي بالتزام التنسيق عبر «أوبك» مع روسيا في ما يتعلق بسوق النفط واستقرار أسعاره دوليا، وإن كان يحمل مؤشرا على إمكانية صعوبة تلبية الرغبة الأمريكية في سد الفراغ الذي سيتركه قرار العقوبات النفطية ضد إيران على السوق الدولية، وبالتالي عدم نجاح الرئيس الأمريكي بفرض إرادته على السعودية برفع إنتاجها من النفط لتعويض الحصة الإيرانية في هذا السوق، التي تتجاوز المليوني برميل في اليوم.
وإيران تراقب بحذر إمكانية أن تتوصل الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب اردوغان إلى صيغة تسوية لأزمة جمال خاشقجي مع القيادة السعودية، بما يخرج هذه القيادة من عنق الزجاجة، أمام سيل الاتهامات التي تستهدف ولي العهد محمد بن سلمان كمسؤول مباشر عن عملية القتل. وأن هذه التسوية التي لن تكون بعيدة عن العين والرضا الأمريكي، وبالتالي فإن هذه الصيغة أيا تكن تفاصيلها وأبعادها، فإنها ستسهم في كسر الجليد الذي طفا في المرحلة الاخيرة على سطح العلاقات التركية الأمريكية، خصوصا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان، الذي استغلته إيران لكسر الحصار السياسي عليها إقليميا. وطهران لا تستبعد أن يكون أردوغان قد فضّل الذهاب إلى تسوية مع القيادة السعودية، مقابل الحصول على وعود سعودية بتعزيز العلاقات بين البلدين، وايضا وعودا بتخفيف الضغوط على حلفاء تركيا في المنطقة، خصوصا موضوع الحصار ضد قطر والملاحقة السعودية- المصرية ضد جماعة الإخوان المسلمين.
ولعل الخشية الاكبر لدى القيادة الايرانية، التي تدفعها إلى التزام الصمت وانتظار النتائج النهائية والصياغات الأخيرة للتسويات بين الدول المعنية في قضية خاشقجي، أن تنتهي الامور إلى تشكيل محور جديد في المنطقة يضم السعودية وتركيا، الدولتان الساعيتان إلى تولي قيادة العالم الاسلامي «السني». وهذا يعني أن إيران «الشيعية» ستكون في مواجهة تياري الإسلام السياسي السني «السعودية وتركيا». ولعل مواقف ولي العهد السعودي في مؤتمر «دافوس في الصحراء» حول تركيا وقطر تشكل مؤشرا على هذا المسار.
لعل الرهان الإيراني الأقل خشية في هذه الدوامة من التداعيات قد يكون في الموقفين الروسي والاوروبي، فهذه الازمة على الاقل ستسهم في إحداث تقارب بين موسكو والرياض، وهي تعتقد بصعوبة أن تحل السعودية مكان إيران في العلاقة مع روسيا، لسببين، الأول أن موسكو تدرك جيدا صعوبة التخلي السعودي عن أمريكا والتحول إلى روسيا، والثاني العلاقة العميقة والمصالحية بين طهران وموسكو في الكثير من الملفات الاقليمية والدولية، خصوصا ما يتعلق في الموضوعين السوري والاسرائيلي وموازين القوى في الشرق الاوسط.
أما فيما يتعلق بالجانب الاوروبي، فطهران تراهن على استمرار الضغط الاوروبي على السعودية في قضية خاشقجي، ليس لأنها تريد النيل من النظام السعودي، الذي تعتقد أن بقاءه يشكل حاجة ضرورية، وقد تكون استراتيجية لها، بل من باب اللعب على المصالح الاوروبية في الانتقام من الرئيس الامريكي دونالد ترامب وإدارته التي تسببت للدول الاوروبية بكثير من الأزمات، ووضعتها أمام الكثير من التحديات الاقتصادية وعملت على محاصرة الدور الاوروبي على الصعيد الدولي.
يبقى أن الانتظار الايراني الاهم، يتعلق بموضوع العقوبات، فطهران تعتقد أن استمرار الجدل حول أزمة اغتيال خاشقجي سيسهم في إضعاف المساعي الأمريكية في تضييق دائرة العقوبات على ايران، وبالتالي فأن ما يطفو على سطح العلاقات بين الاقطاب المعنية في هذه الازمة سيسمح لايران بالتفلت من العقوبات، أو في تسهيل عملية الالتفاف عليها.
الغرب وأمريكا لن يسمحا لأزمة قتل خاشقجي أن تؤدي إلى إضعاف الدور السعودي في مقابل إيران
في لعبة التناقضات هذه، يبدو أن إيران لا تريد أن تذهب بالتفاؤل بعيدا بناء على تداعيات الأزمة التي وجد ولي العهد السعودي نفسه في وسطها، جراء قتل جمال خاشقجي، على الرغم من أنه من المفترض أن تكون هذه الأزمة مؤشرا جيدا لإيران، لما سببته من إرباك وتهديد لأهم خصومها الإقليميين، والحليف المفضل لترامب. القيادة الإيرانية لديها شبه يقين بأن موقع ودور السعودية سيتراجع تحت ضغط المواقف الدولية عليها والتي ستستمر، وأن موقفها سيكون أكثر إحراجا بعد هذه الأزمة، خاصة في تأثيره على دور وموقع ولي العهد محمد بن سلمان، في حال استمر في السلطة واستطاع العبور من نفق الضغوط والمطالب الداعية إلى تنحيه، إلا أنها تعتقد بأن السعودية ستبقى تلعب دورا محوريا في سياسة الإدارة الأمريكية في تشديد الحصار على إيران، خصوصا أن أمريكا لا ترغب في أن تؤدي الازمة إلى خروج السعودية من الحلقة الامريكية ضد ايران، في ظل موقف دولي يبدو عاجزا عن ملء الفراغ السعودي في حرب العقوبات الأمريكية ضد إيران، وهو عجز لا يقتصر على اوروبا وروسيا والصين وبعض الدول العربية والاقليمية، بل يشمل دولة الامارات العربية المتحدة. وبالتالي ستكون ادارة ترامب مترددة في الذهاب إلى تصعيد مفرط ضد ايران، بما يعنيه ذلك من امكانية عمل عسكري محدود، وبالتالي فإن ما فعلته عملية الاغتيال السعودية لجمال خاشقجي، في أحد ابعادها، انها اربكت الموقف الامريكي في سياسة العقوبات ضد الخصم الايراني.
ولا تنكر إيران أن السعودية هي من الدول ذات الثقل في المنطقة، وان الغرب يحتاجها للحفاظ على توازن القوى في مقابل ايران، وعليه فإن الغرب وأمريكا لن يسمحا لأزمة قتل خاشقجي أن تؤدي إلى إضعاف الدور السعودي في مقابل ايران. ولا تستبعد بعض الاوساط الايرانية ايضا أن يكون مقتل خاشقجي عملا من عناصر «مارقة»، أو ايحاء من أجهزة امنية غربية للسعوديين، وقد تكون كما يرى البعض مؤامرة قد تستهدف إيران ايضا. وان تتحول عملية القتل إلى سيناريو يراد تعميمه على الدول الاخرى وذريعة كما الربيع العربي للبدء بعملية تغيير في المنطقة لا تقف تداعياته على السعودية، بل تطال الدول الاخرى في المنطقة، وعليه فإن على إيران أن تكون قلقة من عواقب هذه الحادثة، ومدى تأثيراتها والسيناريوهات المحتملة التي قد تنتج عنها.
كاتب لبناني