إيران والعرب… الانتقال من صراع الدول إلى مواجهة فضاءات التأثير

تحتل إيران رقعة كبيرة من الجغرافيا، كانت على امتداد التاريخ موضوعاً للتمدد والانكماش، وبقيت مركزية العرق الفارسي تشكل النواة الصلبة لوجود إيران التاريخي، ومن ثم السياسي في النسخة التي يعرفها العالم منذ العصر الحديث للعلاقات الدولية، الذي يمكن التأشير إلى تأسيس عصبة الأمم سنة 1920.
ومع أن إيران تبدو لمن ينظر من الخارج وكأنها دولة ما زالت تصارع على المستويين الاجتماعي والسياسي للخروج من العصور الوسطى، تحت نظام يقوم على نظرية الحكم الديني، إلا أن المواطن الإيراني لا يفكر بالطريقة نفسها، ولا يستشعر المشكلة نفسها، بل قطاع كبير من المواطنين يستغربون أصلاً التعاطف المرير الذي يبديه العالم تجاههم، ويدين نظامهم على أساسه.
من يقارن بين إيران في الهزيع الأخير من حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وإيران اليوم، ويستعرض بين الانفتاح الذي تحقق في ذلك الزمن، مع مظاهر الانغلاق القائمة، يتناسى مجموعة من الحقائق، فمن ناحية كانت موجة التغريب الذي شهدها المجتمع الإيراني دخيلة عليه وغير ناضجة وغير شاملة، ولا يتمتع بها الجميع، ولكنها كانت تعبيراً عن أسلوب حياة طبقة معينة، وبقيت الجموع العريضة من الشعب الإيراني، متمسكة بالتقاليد المحافظة، ومن ناحية أخرى، كانت هذه حداثة استعراضية وشكلية للغاية، بمعنى أنها لم تشتبك مع أي انفتاح حقيقي، فالشكل يقوم على الحداثة، وداخله الممارسات المتوارثة نفسها عبر أزمنة طويلة من القهر والحكم المطلق.

كل منطقة يتمدد تجاهها النظام الإيراني هي تعبير عن الضعف في الخاصرة العربية، أكثر منه قوة أو منعة إيرانية

عاش الإيرانيون آلاف السنين تحت الطغيان، ومع أن الديمقراطية الإيرانية تبدو نموذجاً للمفارقة، حيث أنها ديمقراطية مقيدة بحدود نظام أوسع، لا يمكن أن يخضع لرأي الشعب، لأنه مفوض من السماء، إلا أنها تعبير عن حرية اختيار وهمية، أمام عصور كانت مسألة السلطة السياسية فيها مناطة بشخص واحد، يمكنه أن يدفع البلاد إلى الاتجاه الذي يريده. لماذا يتطرف النظام الإيراني في مواقفه؟ ولماذا يبدو نظاماً عنيداً وحروناً؟ التأمل في إيران داخل محيطها المتوتر، وتبادل فترات التمدد والانكماش، وبالوقوف على مرحلة طويلة من التدخل الأجنبي، الذي أودى ببعض التجارب الديمقراطية بصورة مهينة وجارحة للكبرياء الوطني، تدفع النظام الإيراني الحالي لممارسة بعض النزق، الذي يتجلى في المعاندة والمكابرة، والخطاب السياسي الإيراني، وبتنحية الجانب الديني منه، لا يختلف كثيراً في نبرته عن الخطاب الذي تبناه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ولا يختلف في جوهره، وإن كان أكثر صخباً وتصعيداً، من الخطاب الذي يحمله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإيران مع مصر وتركيا، تمثل القوى الإقليمية ذات الوزن السكاني المؤثر، والقيادة الحضارية والثقافية داخل المنطقة.
الجغرافيا الإيرانية عقدة كبيرة، فهي جغرافيا ورثت العديد من الممالك والإمارات المتتابعة، وحملت طموحاتها الإقليمية والتوسعية، ففي داخل إيران اليوم أقليات عربية وكردية وبلوشية، يمكن أن تشكل مجتمعة وزناً كبيراً في مواجهة النواة الفارسية، وفي المقابل فإن للفرس حديقتهم الخلفية، سواء من خلال الأصول العرقية، أو الثقافية في أذربيجان وطاجيكستان وأفغانستان، ويتزاحم مع العامل العرقي، عامل آخر مذهبي، أصبحت إيران تحمله بعد الثورة الإسلامية، وهي تتطلع إلى الأقليات الشيعية في العراق ولبنان والخليج العربي، ومع أن البراغماتية السياسية، تحضر وبقوة في السلوك الإيراني تجاه الشيعة العرب، فإنها لا تحمل الحماس ذاته تجاه الشيعة في أفغانستان، فالنظام الإيراني ينظر إلى خريطة من المصالح، وهو يتمدد إلى الفرص، وكل منطقة يتمدد تجاهها هي تعبير في الأساس عن الضعف في الخاصرة العربية، بأكثر مما يمكن وصفه بالقوة أو المنعة الإيرانية.
نفط الخليج مشكلة جذرية أمام واقع الخليج السكاني، فالخليج العربي لم يكن مرتاحاً مع النظام الناصري، الذي كان يسعى إلى وضع الخليج في قاطرة التبعية لمشروع مصر الإقليمي، وكان ذلك قبل أن تبدأ مماحكات إيرانية عديدة قائمة على الأقليات، ومع مصر وإيران توجد المطامع والمصالح الاستراتيجية للأمريكيين، الذين ورثوا الوصاية على المنطقة من الاستعمار البريطاني، والمشكلة أن الخليج العربي لم يتمكن يوماً من الخروج من لعبة الاستقطابات، التي تجعله يدفع أثماناً باهظة تحت يافطة أمن الخليج، وربما لم يكن استثماره موجهاً بطريقة صحيحة، على أساس أبعاده الثقافية ـ الحضارية التي لا يمكن إلا أن تتواجد في شماله وجنوبه المباشرين، حيث التداخل العرقي والقبلي والثقافي، وهو الأمر الذي يعتبر ذا تكلفة قليلة لدى مقارنته باستنزاف الخليج في لعبة التحالفات الكبرى وسباق التسلح.
الانتقال من مفهوم الخليج ذي الصبغة النفطية، إلى مفهوم الجزيرة العربية، من شأنه أن يشكل العمق الاستراتيجي أمام فوضى العقد التاريخية في المنطقة، وهذه الجزيرة لا يفترض أن تكون كياناً عدائياً يعيش الفوبيا من الآخر، بقدر ما يمكن أن تمثل المساحة التي يمكن أصلاً للكتل الحضارية ـ الثقافية في مصر وتركيا وايران أن تعتبرها مجال التعاون أو التنافس الإيجابي، وأن تصبح نقطة الوصل بينها، خاصة أن هذه المنطقة ستشهد مستقبلاً تراجعاً للوزن النسبي للنفط، في تحديد مسارات وتحولات السياسة العالمية.
قراءة إيران على هذه الشاكلة، وقراءات أخرى موازية لتركيا ومصر، وهي الدول التي تحاول أن تفرض هويات خاصة ومستقلة، تكبدها إشكالية التزاحم والمماحكة، يؤشر إلى استغلاق أي حلول لتغيير السلوك السياسي، فالخطاب التأثيري يبقى أصيلاً حتى لو تغيب مؤقتاً، نتيجة ظروف سياسية واجتماعية طارئة، ويجب على المشرق العربي بشقيه في الجزيرة والشام وشرق المتوسط، أن يقوم في المقابل بوضع مشروعه على الطاولة، وأن يتوسع في فهمه العرقي والقومي، وفي تقديره للمصالح والفرص، ففي هذه المنطقة لا يكون الحديث عن الدول وحدها، بل عن فضاءات التأثير والتأثر بالمعنى الأوسع.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية