وصف المؤرخ الإيراني أحمد كسروي إيران بـ»برميل من القذارة التي عمت رائحتها العالم أجمع». انفجر البرميل وتساقطت شظاياه وأزكمت أنوف العالم أجمع، لكن ذلك البرميل لم يكن إلا مسيرات أطلقتها إيران فأضاءت بها سماء تل أبيب في ليلة ظلماء افتقد فيها النور، أو هكذا فكر الإيرانيون فتكفلوا بإضاءتها.
بين ليلة السبت 13 وفجر الأحد 14 من أبريل سُفك الكثير من الحبر، وقيل الكثير وسيقال الكثير ويكتب الكثير، لكن سيبقى شيء ما لن يخرج للعلن إلا في وقته، بوادره ظاهرة، بين الحين والآخر تقذف منه شذرات أو شيء يرمى للعامة.
ماذا حصل في تلك الليلة؟ الإيرانيون يقولون إنهم لقنوا الإسرائيليين درساً قاسياً لن ينسوه أبداً، والإسرائيليون عن تلك الليلة يقولون «بالأمس، جاءت البشائر الطيبة الليلة بين السبت والأحد، كانت أفضل الليالي منذ 7 أكتوبر. في الواقع، الليلة الطيبة الأولى. حصل فيها ما كان ينبغي أن يحصل في صباح 7 أكتوبر، ولم يحصل، كل شيء في هذه الليلة مرّ مثلما في لعبة حاسوب، مثلما في فيلم علم خيالي: بالضغط على الأزرار، دون دم ودون عرق.. حرب مثالية».
نحن العرب القابعون على الضفة الأخرى، لإيران تتشابه الأشياء علينا ولا نعود قادرين على الرؤية فُيهرع نحونا بكاشفات الرؤية، لكننا لا نرى إلا ما يراد لنا رؤيته
وقال آخر لو أرادت إيران أن تضرب إسرائيل حقيقة، ولو كانت صادقة لاستطاعت ذلك ودكت العدو الصهيوني ضربة قاسية تعيد التوازن للمنطقة بأكملها، وهي قادرة وتملك الأسلحة لذلك، ولو أرادت إيران فعلا لاستخدمت نوعا آخر من الأسلحة، التي تمتلكها وتستعرض بها، بل تعمدت أن تستخدم مسيرات بطيئة الحركة أخذت تسع ساعات للوصول إلى سماء تل أبيب وهي الفترة الكافية جداً لاعتراضها. وعن العرب قالوا «ستة أشهر ولم يتجرأ أي حاكم عربي على حماية أهالي غزة.. مجرد ما تعرضنا للهجوم الحكام العرب هرعوا لنجدتنا ولحمايتنا». ماذا عسانا أن نقول نحن؟ ماذا بعد هذا القول؟ يسأل أغلب الناس، أهي مسرحية محكمة الإخراج أجاد فيها الممثلون، وتقمصوا الأدوار بشكل مبدع بعدما لقنهم المخرج كل شيء، أم هي حلقة جديدة من المسلسل، أم هي فصل من رواية، أم هي ضربة عسكرية محكمة وانتقام مستحق. ماذا بعد؟ ماذا يحدث؟ هكذا يسأل الكثير. لكن المؤكد بأنه بعد ترقب وانتظار والكثير من الجعجعة والإثارة فعلتها إيران، ونفذت تهديدها بضرب إسرائيل، فأرسلت عشرات من الطائرات المسيرة، بغض النظر ما إذا كانت هذا الضربة توازي الضربات المتلاحقة التي نفذتها إسرائيل، ومنها ما استهدف العمق الإيراني وأوجعت فيها، وعملت فيها على تصفية قادة عسكريين وعلماء واستهداف مواقع كثيرة. هكذا تبدو الصورة العامة. أما نحن العرب القابعون على الضفة الأخرى، لإيران فليس لنا من الأمر إلا النظر والترقب، لا ندري أنحن الرابحون أم نحن الخاسرون، تتشابه الأشياء علينا ولا نعد قادرين على الرؤية فُيهرع نحونا بكاشفات الرؤية، لكننا لا نرى إلا ما يراد لنا رؤيته، ولا نسمع إلا ما يريدون أن نسمعه. أي بلوى هذه التي نحن فيها، أهو فرح نعيش فيه أم كأبة تغشانا. هذا الذي يتمدد أمامنا لا نأمنه ولا نطمئن له وهو جارنا وشريكنا في بحرنا ومضيقنا. فمنذ عام 1979 ونحن متوجسون من تصدير ثورتهم، فالعلاقة بيننا لا يحكمها إلا الغموض، علاقة مرتبكة لا تخرج من المنطقة الضبابية إلا وتعود إليها، علاقة زئبقية ملتوية، حتى إن أردنا أن نكون مسالمين نرى فيها دولة مسلمة وجارة، ويجب التعامل معها على هذا الأساس نخفي في دواخلنا جبالا متراكمة من الشكوك، نتقارب معها تجنباً لشرها. المشتركات بيننا كثيرة، فعوضا عن الإسلام والجيرة، هم يرون في القضية الفلسطينية قضيتهم، وتحرير الأقصى هدفهم المعلن، وفي صلب أولوياتهم، وذلك ما يفرحنا، لكن هناك سيلا من التناقضات التي تعودنا عليها، فما تصرح به في العلن يختلف عن أفعالها في السر، ويختزل العقل الجمعي العربي إيران من خلال أفعالها لا أقوالها، فيضع مقياساً لذلك، رغم أن الكثير من العرب لا ينطلقون في نظرتهم تلك لا مذهبياً ولا دينياً ولا بأي رابطة. العقل والأفعال هما ما يحددان هذه العلاقة، وهي التي أشعلت الحروب والمذهبية في الوطن العربي وتسببت في دمار دول عربية، وقد صرح أحدهم بأنهم يسيطرون على ثماني عواصم عربية، ما فعلته إيران بسوريا والعراق واليمن ولبنان شيء في نظر الكثير من العرب لا يغتفر، وإن كانت التعامل معها يتم لدواعي السياسة بين الأنظمة العربية، كيف نثق بإيران التي لم تخلف وراءها إلا الدمار والتخلف؟ كيف وسياستهم بالأساس تجاه العرب تقوم على سردية انتقامية، ترى أن العرب هم من تسببوا في انهيار الإمبراطورية الفارسية، فإيران ليست صادقة في الوقوف مع العرب وقضاياهم وهم في الأساس لا يختلفون عن أعداء العرب، وإن بالوسائل فقط، فالشواهد كثيرة على مرّ التاريخ حديثاً من تعاون إيران مع الغرب وإسرائيل في حربها ضد العراق، وفضيحة إيران كونترا وقصف المفاعل النووي العراقي.
بعض العرب من يضعون إيران في مرتبة عالية، ويرون فيها السند الحقيقي للقضايا العربية، وتعمل جاهدة لتحرير القدس وفلسطين من براثن الصهيونية، وإن عداءها لإسرائيل والصهيونية حقيقي ونابع من كونها دولة إسلامية وجارة للعرب، وداخل هذه الفئة من يدينون بالولاء مذهبياً بغض النظر عن أفعالها وهذا يكفي، تتهم هذه الفئة بأنها ضمن القطيع ليس لها من الأمر، إلا القشور والظاهر من الأشياء، بينما الباطن شيء مختلف تماماً، هذه الفئة هي من هللت وكبرت وتراقصت فرحاً بضربة إيران.. وهم الذين يتفننون في صياغة الحكي والنظريات فيرون على سبيل المثال أن إيران حتى وهي تضرب حكيمة واستراتيجية، لا يهمها الخسائر المادية والبشرية بقدر ما تسعى إليه من فوائد على المدى البعيد، فكما عرف عن الإيرانيين من طول نفس في مفاوضاتهم، وهم يلعبون على الوقت وإنهاك خصمهم بالوقت، فهم يتبعون الاستراتيجية نفسها في قصفهم وحروبهم، ينتظرون ثمارها لاحقاً عندما يخفت الضجيج، هؤلاء يقفون على الحياد ويزاحمون الفضاء والمواقع، وكأن ليس لهم في الأمر لا ناقة ولا بعير وكأنهم يعيشون في كوكب آخر يرون أن ما وقع ليس اعتداء ولا ضربة ولا حربا ولا شيئا من هذا القبيل، كل ما في الأمر هي رسالة أرادت إيران توجيهها لإسرائيل وأمريكا والغرب، فهي أرادت أن تقول لتل أبيب، نحن هنا قادرون على الوصول إليكم في أي وقت، ولدينا من الأسلحة ما يكفي، خطوطنا الحمر يجب ألا تتعدوها ما عدا ذلك فلكم ما شئتم قواعد اللعبة بيننا يجب ان تختلف من الآن فصاعداً، هذه الرسالة المهمة التي أرادت أن تفهمها إسرائيل وأمريكا والغرب قاطبة، التعامل مع إيران لن يكون كما كان عليه قبل هذه الواقعة.
أخيرا هل يمكن أن يكون الهجوم الإيراني على إسرائيل نصرة لأهل غزة ونتيجة لتداعيات عملية طوفان الأقصى، وما ترتكبه إسرائيل من جرائم مشهودة، علما أن ما خرج وروج له قبل ذلك، أن هناك صفقة يجري بحثها وتتضمن أن تكف إيران عن الرد مقابل وقف العدوان الصهيوني على غزة، والإعلان عن وقف إطلاق النار وأن تحصل إيران على تعويض مادي مجز تدفعه دولة خليجية. الجواب في قسمه الأول طبعاً لا ليس له علاقة بذلك لا من قريب ولا من بعيد، فتلك حسابات مختلفة بين إيران والكيان الصهيوني، أما مسألة التعويض المالي وتعاون الدول الإقليمية والمسائل الأخرى فسيماط عنها اللثام عاجلا وليس أجلاً.
كاتب عماني