بين المرشد الأعلى والمؤسسة العسكرية العقائدية التي يمثلها حرس الثورة، تكمن سياسة الدفاع عن المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية والجيواقتصادية لإيران. والأيديولوجية العقائدية، هي التي تحدد شكل العلاقات وأبعادها، التي تربطها مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي. وعبر دبلوماسية الجوار بحثت إيران عن الاستفادة من مكانتها الجيوسياسية، ومجاورتها لقرابة 15 دولة في الاقليم، في منطقة حيوية مليئة بكل أسباب التوتّر. وهي مسرح للاستقطاب وصراع المحاور، ومحطّ أطماع قوى الهيمنة.
طهران لم تكن مرتاحة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، فالأخير ذهب إلى تصعيد الحصار على النظام باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية، وفرض العزلة السياسية والدبلوماسية على إيران بشكل واسع. والإدارة الحالية ترغب في العودة للاتفاق النووي، الذي تنصلت عنه الإدارة السابقة، ولكن بايدن مقيّد في ما يبدو بجماعات الضغط الإسرائيلية، التي تدفع بشتى الطرق لإفشال المفاوضات الحالية وإعادتها إلى نقطة الصفر. ومحاولات الليكود مستميتة في تحويل العقوبات والحصار المفروضين على إيران، إلى مغامرة عسكرية تطيح بالنظام وتدمّر قدراته القتالية التي تخشاها تل أبيب.
بهذا المعنى، المقاربة الإسرائيلية المتشددة مفهومة من جهة أنّها لا ترغب في أن يزاحمها شريك نووي في الشرق الأوسط، لذلك تواصل الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل دفعها لمجابهة طهران، مثلما تم توريطها في غزو العراق، واتّهام نظام البعث العراقي، بتأثير صهيوني، أنّه يمتلك أسلحة دمار شامل. دفعت إلى ذلك ألسنة الدعاية الصهيونية، حتى قبل أن ينزاح غبار برجي التجارة العالميين، مع أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تستطيع أن تتعايش مع عراق نووي أو غير نووي، وكذلك شأنها مع إيران نووية، فهي لا تشكّل أي تهديد وجودي بالنسبة لها، ولكن إسرائيل المنتشية باتفاقات إبراهام، تريد أن تتفرّد بصفة القوة الإقليمية المهيمنة أمام فضاء عربي يعاني التشتت والانقسام. من جهتها، سعت طهران عبر دبلوماسيتها الاقتصادية إلى العضوية في منظمة شنغهاي لفتح أبواب أسواق آسيا الوسطى أمام البضائع والسلع الإيرانية. والتخطيط لمشاريع في مجال النقل والتعاون المصرفي والجمركي والزراعي. وخطوة الانضمام تعد مكسبا اقتصاديا، وتحديا صريحا للعقوبات الأمريكية، وتقويضا للضغوط الغربية المتواصلة عليها. والأهم بالنسبة للإيرانيين أنّها مرحلة جديدة من شتى أشكال التعاون الاقتصادي والتجاري والترانزيت والطاقة وغيرها، فهي منظمة تتوفر على 25% من حجم الإنتاج العام في العالم. وتضم الصين وروسيا والهند وباكستان وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزيا وإيران كأعضاء أصليين، ومنغوليا وأفغانستان وبيلاروسيا كأعضاء ثانويين، وتسعى طهران لجني مكتسبات عديدة مع هذه الدول في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، على نحو خلق مجال حيوي لدعم اقتصادها، خصوصا مع الصين والهند وروسيا. وهو مناخ من شأنه أن يمكّنها أيضا من إدارة مفاوضاتها النووية في نوع من الليونة والهدوء، وضمن أزمة الطاقة العالمية والارتفاع الجنوني لأسعار البترول والغاز، تبحث إيران عن استغلال هذه المتغيرات الجيوستراتيجية رغم العقوبات المفروضة، فهي تعتبر من أهم الدول المصدرة للغاز، وتمتلك مع إندونيسيا وبنغلاديش وباكستان وتركيا وماليزيا ومصر ونيجيريا ما يعادل 45% من حجم التجارة العالمية للغاز و65% من مخزون الغاز المكتشف في العالم.
إسرائيل لا ترغب في أن يزاحمها شريك نووي في الشرق الأوسط، لذلك تواصل الضغط على الإدارة الأمريكية لدفعها لمجابهة طهران، مثلما ورطتها في غزو العراق
بسبب الأعمال العسكرية الأوروبية، خسرت إيران في بداية القرن التاسع عشر، أذربيجان وأرمينيا وأقسام كبيرة من جورجيا وأفغانستان التي كانت في معظمها إيرانية، لهذا اعتقد الكاتب الأمريكي المتخصص في الشرق الأوسط باتريك كلاوسن، «أن خسارة إيران لهذه الأراضي، ترجم نفسه لدى الإيرانيين، إحساسا بأنهم ضحية وشجّعهم على تبني نظرية المؤامرة». وهذا بدوره ساهم في بلورة القومية الإيرانية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. القومية القائمة على العصبية الفارسية منذ درايوس الكبير (حكم بلاد فارس من 522 إلى 486 قبل الميلاد) عندما أعلن أن الخط الآري للإيرانيين مرتبط بالعالم القديم، ومنذ قيام الثورة أواخر السبعينيات، كان الرهان لدى النظام الإيراني هو توسيع دائرة الثورة الإسلامية ونفوذها عالميا، باستخدام مؤسسة الحرس عسكريا، وتفعيل الإدارة الدبلوماسية، في إطار تطبيق شعار معهود كثيرا ما يتم ترديده في الأوساط الرسمية الإيرانية وهو «محاربة الاستكبار العالمي والدفاع عن المستضعفين»، حتى إنّ هذا الشعار نص عليه الدستور الإيراني في مقدمته، ومن معاداة الأمريكيين ومقاتلتهم وخطف دبلوماسييهم في الثمانينيات، إلى التحالف معهم في أفغانستان والعراق في أوائل القرن الحادي والعشرين، من المنطق الصراعي إلى الاشتباك الدبلوماسي، كلا المسارين لم يكونا يوما بالسهولة التي يستطيع معها الغرب وأمريكا تحديدا حسم مسألة الأزمة الإيرانية، وملفات التفاوض المعقدة التي تخضع للمداورة منذ عقود، والسمة البارزة لدى الإيرانيين هي التنقل بليونة بين المواقف المتناقضة في السياسات الخارجية، وإن يكن مبعثها القومية الفارسية المشبعة بالدهاء، فقد بالغت أحيانا في التناقض المفضوح، من ذلك مفارقة وصف القيادة الإيرانية للانتفاضة السورية منذ بدايتها بالمؤامرة التي تستهدف محور المقاومة، في وقت كان النظام الإيراني يصر على توصيف ما شهدته تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين بأنه «نهضة إسلامية».
يبدو أنّ اللغة الواضحة والمباشرة، تعتبر في إيران نقيصة، ويتم التعبير عن الأمور بشكل موارب، التعبير عن الغموض الذي يسم السلوك الإيراني عبّر عنه أيضا عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق، في شرحه لطبيعة التحالف السوري الإيراني المتواصل منذ قرابة ثلاثة عقود عندما قال «لم نكن نعرف ماذا يريد الإيرانيون حقيقة، إلا بعد أن تقع الأحداث»، فهل الأجواء الراهنة في المنطقة تشبه فعلا المناخات التي سبقت حرب أكتوبر عام 1973؟ أم أنّ بوادر التقارب الدبلوماسي بين طهران ودول الخليج، خاصة السعودية، يفتح الباب نحو إطلاق محادثات علنية على المستوى السياسي، وإعادة ترسيم منطقة الخليج لخريطتها الدبلوماسية مع إيران. ويبطن انتقال أدوات التنافس إلى مفهوم جيو اقتصادي يمر عبر القنوات الدبلوماسية؟
كاتب تونسي
إيران قوة إقليمية يجب أن يحسب لها ألف حساب وحساب بلا عتاب عندما تكون الحرب على الاعتاب، وإن غدا لناظره قريب وارتقب إنهم مرتقبون