ينظرُ حلفاء إيران، مِن دولٍ ومنظمات، إلى انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية على أنه انتصار جيو-سياسي لايران. لا يرتبطُ ذلك بوصول رئيس محافظ إلى سدة الرئاسة، بل بكون الحرس الثوري هو شريك مباشر بالخيار الذي تبنّاه المرشد. أضحت الهوامش بين الدولة والحرس والثورة أضيق، وربما تصل إلى حدّ التكامل. يُشكّل رئيسي عنواناً لإعادة تجديد الزخم لحضور إيران في ساحات ما يُسمى «محور المقاومة».
يرى منظّرو «المحور» أن «أهمية رئيسي تنبع من كونه أول مرشح بعمامة سوداء للرئاسة بعد خامنئي». وللعمامة السوداء في نظام الجمهورية الإسلامية، منذ الإمام الخميني، معنى استثنائي يؤهل صاحبها إلى أن يتنقل في سدّة التراتبية كي يكون مرشداً، ولا سيما أن رئيسي خرج من رحم المؤسسات، وتدرَّج فيها ومرَّ على العتبة الرضوية التي تمثل برمزيتها أعلى معاني الولاء الإيراني للمذهب الشيعي. انتخاب رئيسي هو تعبير عن إعادة إنتاج روح جديدة لنظام ولاية الفقيه، وتجسيد لزخم البيعة يوم تشييع قاسم سليماني والبناء عليها لمرحلة زمنية جديدة بما يعطي مزيداً من الوقود المستقبلي للثورة. والرجل يتبنّى بالكامل المشروع الجيو-سياسي للجمهورية الإسلامية ولما يخطّه المرشد الأعلى علي خامنئي من أفق جديدة لسنوات مديدة، الذي سيكون معه مطمئناً إلى أنه سلَّم الأمانة.
أتى رئيسي بعد أشهر على خروج دونالد ترامب من المعادلة الأميركية، وفي ظل اندفاعة لخلفه جو بايدن للعودة إلى طاولة المفاوضات حول النووي الإيراني، وإن كان بشكل غير مباشر. ويترافق هذا مع ارتفاع منسوب الآمال بإمكانية التوصل قريباً إلى اتفاق يضع إيران-رئيسي أمام مرحلة جديدة داخلية وخارجية مليئة بالكثير من المحفزات التي يمكن أن يضخّها في ساحات نفوذه في الدول التي تنتشر أذرعه المسلحة فيها من خارج المؤسسات الشرعية وداخلها، وسط اقتناع هؤلاء بأن النظام المتجانس في مؤسساته ليس في وارد إدراج بند الميليشيات على طاولة أي تفاوض.
والتعامل مع وصول رئيسي إلى الرئاسة على أنه شكل من أشكال الانتصار الجيو-سياسي لإيران سيكون له إسقاطاته العراقية والسورية واللبنانية التي تُشكّل «الهلال الشيعي» وكذلك ستكون له تأثيراته اليمنية وحتى الأفغانية مع استراتيجية الخروج الأمريكي من المنطقة.
يقول منظّرو «المحور» إن الإيرانيين يحلمون بنقل تجربة شيعة لبنان لتُشكّل نموذجاً لشيعة العراق، وإن كانت الفسيفساء الشيعية في العراق أكثر اتساعاً وتعقيداً. هم يتعاملون بصعوبة مع قواعد الصراع على أرضه سواء مع الأمريكيين أو في الصراع الداخلي الموجود، وطبيعة التعقيدات العراقية. سيعطي وجود رئيسي مزيداً من الدعم للحشد الشعبي الموالي لها. وسيكون عنوان الانتخابات النيابية المقبلة مسألة أساسية، تماماً كما سيكون شكل المساكنة أو المواجهة مع أمريكا في هذه الساحة مُحدداً لمسار الأمور فيها، وللمدى الذي يمكن معه تطبيق مفهوم «تعايش المصالح».
في سوريا، ثمة ارتياح أكبر بإعادة انتخاب بشار الأسد، حيث وجوده في سدّة الرئاسة لسبع سنوات مقبلة، في هذه اللحظة من الصراع في المنطقة وما يتيحه من فرص، أوصله إلى شاطئ الأمان، لكن التحدّي يبقى في كيفية تجاوزه حالة «الستاتيكو» التي تحاول أمريكا فَـرْضَها في العراق وسوريا. المتوقع هو مزيد من الدعم المالي والاقتصادي، وتفعيل لأُطر التنسيق مع الأسد بما يتجاوز حضور الحرس و«فيلق القدس» إلى علاقة أوسع على مستوى الدولتين والمؤسسات الرسمية فيها يظللها تفهم إيراني للأولويات التي تحتاجها سوريا. تفعيل العلاقات السورية – العراقية أولوية كبيرة لإيران مع إبراهيم رئيسي، وهذا أيضاً ينسحبُ على العلاقات السورية-العراقية-اللبنانية.
ما يعني إيران في سوريا على الصعيد الاستراتيجي هو خطوط الإمداد: منطقة شرق الفرات ربطاً بالطريق إلى طهران عبر بغداد، ومنطقة الجولان ربطاً بإسرائيل، ولبنان ربطاً بـ«حزب الله». الحضور الإيراني العسكري مستمر، وكذلك حضور «حزب الله» الذي يجري الحديث عن أنه سيأخذ شكلاً جديداً.
قد يكون «حزب الله» الأكثر ارتياحاً بين الأذرع. في الأساس، يحظى بمكانة ثابتة ملازمة للخامنئي ما فوق المتغيّر السياسي الداخلي في إيران، ولديه حضور وتأثير ووزن في عقل المرشد وحوله. هو أكثر من يُدرك معنى الرسالة التي ترسلها إيران-رئيسي في الداخل والخارج، والأكثر التصاقاً بها وبخياراتها في الحسابات الاستراتيجية. سيبقى موقع «حزب الله» الفعّال في الإقليم متقدماً، وسيتعزز الدعم، خصوصاً أن الحزب -درة إيران- هو الأكثر قدرة على تظهير هذا الانتصار. وهو قاطرة الحضور المؤثر في ساحات الالتصاق المباشر مع إسرائيل سواء في سوريا أو فلسطين أو لبنان. سيعمل رئيسي على مدِّ هذا الحضور بكل سبل الدعم، وسيعمل على تفعيل البُعدين العراقي واليمني في المواجهة مع إسرائيل. تلك المواجهة الأوسع المحتملة التي تؤخرها في كل مرة غزة بفعل تحوّلها ساحة اختبار لموازين القوى. أزاح «سيف القدس» شبح الحرب الكبرى التي تبقى خياراً حاضراً على الطاولة.
في قراءة منظّري «المحور» أن أمريكا في استراتيجية مواجهتها مع الصين تريد نزع الناب الإيراني، الشديد الفعالية والتأثير، من فم التنين الصيني. هذا يدركه الإيرانيون جيداً ولا يغيبُ عن بالهم في كل حساباتهم سواء تلك المتعلقة بالملف الإيراني أو بصواريخها الباليستية أو بنفوذها. هذا إذا ما أخذنا أن مسألة النفوذ هي ركن من أركان الثورة المؤطرة في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران تحت مسمى «نصرة المظلومين والمعذبين والمستضعفين في العالم» وما يعنيه من «تصدير الثورة».