خلافا لمعظم التوقعات، ما زالت الاحتجاجات الشعبية مستمرة في إيران بعد مرور أكثر من شهر ونصف على انطلاقها. فعلى سبيل المثال، شهد حي اكباتان، الواقع غربي طهران، مساء الإثنين الماضي تظاهرة كان شعار «الموت للدكتاتور» أحد شعاراتها البارزة، وقد تصدت لها قوات القمع بالقنابل المسيلة للدموع. وفي اليوم ذاته، شهدت مدينة سنندج، عاصمة محافظة كردستان الإيرانية، جنازة حاشدة لشابة، لم يتعد عمرها السادسة عشرة، سقطت ضحية القمع بينما كانت تشارك في إحدى التظاهرات. وقد تحولت الجنازة إلى تظاهرة ضد النظام، تضمنت إطلاق شعارات مطالبة بإسقاطه وقيام المتظاهرات بخلع أحجبتهن، على غرار ما حدث في سائر الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في إيران منذ وفاة الشابة مهسا أميني إثر اعتقالها من قِبَل إحدى «دوريات الإرشاد»، أي الشرطة الدينية، لأن ملبسها لم يرق لهم.
وإزاء هذا السخط الشعبي، رأينا ونرى النظام الإيراني يستخدم الأساليب المعتادة من طرف الأنظمة الاستبدادية على اختلاف أنواعها وألوانها، وهي خليط من الإرهاب ومحاولات تشويه السمعة، ناهيك من مساعي قطع الاتصال بين الناس وبين البلاد والخارج. ففي مجال تشويه السمعة، ما انفك النظام الإيراني يُعزي الاحتجاجات الشعبية إلى تحريض الخارج مستوحيا «نظرية المؤامرة» التي تحبذها كافة الدكتاتوريات. ومن فرائد هذه النظرية في تطبيقها على الانتفاضة الشعبية الإيرانية الراهنة، كلام القائد العام لفيلق «حرس الثورة الإسلامية»، حسين سلامي، في اتهام المملكة السعودية (أجل، المملكة السعودية!) بتحريض الشبيبة الإيرانية على الثورة! وقد تبعه في ذلك الأمين العام للفرع اللبناني للفيلق، إذ اتهم المتظاهرين والمتظاهرات في إيران بالانتماء إلى المؤامرة عينها التي تنتمي إليها، حسب زعمه، الجماعة الإرهابية التي تُطلق على نفسها اسم «الدولة الإسلامية»!
مصير الثورة الديمقراطية في إيران مرهون بقدرتها على شق صفوف القوات المسلحة، أي على كسب قواعد القوات المسلحة النظامية إلى جانبها
أما في مجال الإرهاب، فبعد قتل عدد من المتظاهرين والمتظاهرات يناهز 250 حسب تقارير منظمات حقوق الإنسان، واعتقال ما يزيد عن ألفين، بينهم مئات النساء اللواتي تعرضن للتحرش والاعتداء الجنسيين من قِبَل قوات القمع، ها أن النظام الإيراني يكشر عن أنيابه القضائية. ففي أول محاكمة متعلقة بالتظاهرات، أنزلت المحكمة حكم الإعدام بالمتهم الأول من خمسة متهمين، ويُنتظر أن تُنزل أحكاما مماثلة بالأربعة الآخرين. كما أن النظام يعِد بإجراء محاكمات علانية لحوالي ألف معتقل في العاصمة طهران وما يزيد عن ألف معتقل آخرين في سائر المناطق الإيرانية. وهذا ما يُنذر بأبشع المآسي حيث إن الرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي، تميز في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان نائبا للمدعي العام في طهران، بثقل يده الإجرامي، إذ قضى بإعدام عدد من الناس يتراوح حسب التقديرات بين ثلاثة آلاف وثلاثين ألفا (!)، في مشاهد مروعة، منها شنق المحكوم عليهم من رافعة بناء وبدفعات من ستة متتالية كل نصف ساعة.
فإن إيران تقدم لنا نموذجا فذا من المعضلة التي تواجه الثورات الديمقراطية في سعيها وراء إسقاط أنظمة الاستبداد في زمننا المعاصر بعد أن تعلم المستبدون دروس التاريخ. ذلك أنهم يحرصون على بناء قوات قمعية خاصة مرتبطة عضويا بنظامهم الاستبدادي، وبشتى الوشائج من القبَلي إلى الطائفي إلى العقائدي، إلخ، والمالي في جميع الأحوال (وكم بالأحرى عندما ينعم النظام بمصدر تمويل ثابت كالريع النفطي). هذا يؤدي إلى حالة أنظمة لا حدود أمام استعدادها للقتل بغية أن تبقى في الحكم وتنعم بامتيازاته، حتى لو عنى ذلك قتل مئات الألوف وتشريد نصف السكان مثلما حصل في سوريا الشهيدة، وبمساعدة النظام الإيراني عينه.
فلا مخرج من هذه الدائرة الاستبدادية الجهنمية سوى بأن تنشق القوات المسلحة، فيستحيل الوضع حربا أهلية تنتهي إما بسقوط النظام كما جرى في ليبيا (بفضل دعم أجنبي للثورة) أو بنجاحه (المؤقت) في القضاء على الثورة كما حصل في سوريا (بفضل دعم أجنبي للنظام الاستبدادي). فإن مصير الثورة الديمقراطية في إيران مرهون بقدرتها على شق صفوف القوات المسلحة، أي على كسب قواعد القوات المسلحة النظامية إلى جانبها، إذ يصعب الرهان على شق صفوف «حرس الثورة الإسلامية» نظرا لكونهم قوات خاصة لدى النظام على غرار الألوية الخاصة في الأنظمة الميراثية العربية. وهي عين المعضلة التي وصفناها في الأسبوع الماضي في حديثنا عن السودان («السودان: الطغمة العسكرية سنة بعد الانقلاب»، 25/10/2022)، مع فارق هام هو أن وزن القوات النظامية النسبي وتعرضها للضغط الشعبي هما أكبر بوضوح في السودان مما في إيران، ناهيكم من سوريا، بما يفسر حذر الحكم العسكري في الخرطوم من القيام بمحاولة ثانية في تنفيذ مجزرة على نطاق واسع مثلما فعل في سعيه الفاشل وراء إرهاب الحراك الشعبي في الثالث من يونيو/حزيران 2019.
كاتب وأكاديمي من لبنان
اللافت استخدام قنابل غاز تسيل دموع المتظاهرين .. أين .. في ايران التي وقفت مع النظام الطائفي في تجريب مختلف انواع الاسلحة فوق رؤوس المدنيين
إعتذار تأريخي للأخ جلبير الأشقر
إذ في تعليقي على مقال الأخ صبحي حديدي ما قبل الأخير «البرهان ومكوّناته المدنية: من يشتري الوقت؟» (ق ع 29ت1-22)، أشرتُ إلى مقال الأشقر المذكور في النص أعلاه «السودان: الطغمة العسكرية سنة بعد الانقلاب» بالتأريخ غير الصحيح (ق ع 23ت1-22)، بينما التأريخ الصحيح هو (ق ع 25ت1-22)، مما استوجب التنويه
وكملاحظة عابرة على فحوى العبارة التصديرية هنا “مصير الثورة الديمقراطية في إيران مرهون بقدرتها على شق صفوف القوات المسلحة…”: أولا لدي شكوك في تسمية الثورة في إيران أو ما يوحي بها بـ”الديمقراطية” بقدر ما هي هذه المرة “ثورة نسائية” في الجوهر (شرارتها الأولى هي قتل مهسا أميني من قبل الطبقة الثيوقراطية الحاكمة)، ثانيا ليس من مهمات الثورة على الاستبداد والطغيان أية كانت كما هو معروف في تاريخ الثورات العمل أو القدرة على “شق صفوف الجيش” بل على إشعال فتيل الشعور الوطني الجمعي الحقيقي بين عناصره سواء كانوا موالين أو غير موالين – ولنا في سوريا وحتى السودان بالذات خير مثال