لندن– “القدس العربي”: وصفت مجلة “إيكونوميست” انتخابات تونس البرلمانية الأخيرة بالمهزلة وبأنها تدفع البلاد نحو حكم الرجل الواحد. وقالت إن مشاركة الناخب التونسي كانت أقل في مستوياتها من مستويات التضخم التي تعاني منها البلاد.
وأكدت أن المرة الأخيرة التي ذهب فيها سكان حي لاغوليت بالعاصمة التونسية كانت لاختيار ممثل عنهم في البرلمان، ولكنه كان خياراً معقداً، فقد رشح أكثر من 56 حزباً أسماء عن المنطقة. وفي انتخابات 17 كانون الأول/ ديسمبر كان أمامهم اختيار سهل، نظراً لعدم وجود سوى مرشح واحد على القائمة، ومن الصعب تخيل وجود حالة من الترقب في مقراته الانتخابية عندما أعلنت النتائج.
معظم التونسيين يشعرون بالقرف من السياسة، وما يشغلهم هو تأمين لقمة العيش، وليس المشاركة في التظاهرات. إلا أن سعيد لا يمكنه التعويل على هدوء الجماهير وللأبد.
وتعلق المجلة أن الانتخابات الأخيرة هي تتويج لـ 17شهراً من عمليات الاستيلاء على السلطة التي بدأها الرئيس الديكتاتوري، قيس سعيد.
ففي تموز/ يوليو 2021 عطّل معظم بنود الدستور، وأرسل الجيش لمنع النواب من دخول البرلمان، ثم عزلهم في وقت لاحق، وتحرك لاحقاً نحو القضاء وعزل القضاة ونصب الموالين له في المؤسسات المهمة، بما فيها الهيئة العليا للانتخابات وتحرش واعتقل المعارضين والنقاد له. وفي صيف العام الحالي قام بتمرير دستور أعدّ على عجل خفف فيه من سلطات البرلمان.
وفي مفارقة قاتمة نوعاً ما جاء توقيت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد 12 عاماً، من قيام بائع الفاكهة محمد بوعزيزي بإشعال النار في نفسه مشعلاً معها انتفاضة أدت للإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، الديكتاتور الذي حكم البلاد مدة طويلة، وظهرت بعد ديمقراطية فيها عيوب.
وفي الوقت الذي انتخب فيه سعيد عام 2019، وصل التونسيون لحالة من الخيبة مما آلت إليه ديمقراطيتهم ويأسهم من قادة البلاد السياسيين في مرحلة ما بعد الثورة، والذين أظهروا اهتماماً بالخلافات الحادثة بينهم أكثر من حل مشاكل البلاد.
ولكن سعيد لم يفعل أي شيء لحل الفوضى الاقتصادية التي تسببت بالغضب العام، والذي قد يوجه نحوه. وحاول سعيد تخفيض دور الأحزاب في الانتخابات الأخيرة، فلم يظهر شعار الحزب إلى جانب المرشح، وقاطعت معظم الأحزاب الانتخابات، ولم يستطع سوى 1.058 مرشحاً الحصول على موافقة اللجنة للمنافسة في 161 مقعداً.
وبعيداً عن حي لاغوليت، فقد ترشح في تسع مناطق انتخابية مرشح واحد. ولم يرشح أحد نفسه في سبع مناطق مخصصة للتونسيين في الشتات. ولم تهتم السفارة التونسية في لندن بفتح أبوابها أمام الناخبين، لأنه لم يكن هناك مرشحون للتصويت لهم.
وفي بعض المناطق التي حصلت فيها المنافسات الانتخابية كان المرشحون مجهولين. فمقاطعة الأحزاب الانتخابات تركت طيفاً من المرشحين الأفراد، وأي شخص يستطيع الحصول على 4000 توقيع، وقادر على تمويل حملته الانتخابية. ولم يعرف الكثير من التونسيين الأشخاص على البطاقات الانتخابية. وانتهى الأمر بهيئة الانتخابات لوضع صورة لكل مرشح أو مرشحة (إن كان هناك مرشحات) بدلاً من الأحزاب، حيث صوّت الناخبون للمرشح صاحب الشعر الأجمل.
وكانت المشاركة، كما هو متوقع، متدنية جداً، ولم يشارك فيها سوى 800.000 من الذي يحق لهم التصويت، من بين 9 ملايين نسمة.
ارتفع التضخم السنوي إلى 9.8%، وهي ديمقراطية في حالة صحية مزرية، عندما تعلن أن المشاركة في الانتخابات أقل من معدل التضخم.
ووعد سعيد ببرلمان متحرر من قيود السياسة، وأن يكون الأكثر ديمقراطية في تاريخ تونس، وانتهى به الأمر ببرلمان انتخب بنسبة أقل من 9% من الناخبين.
ودعت جبهة الخلاص الوطني للاحتجاجات واستقالة الرئيس، وكذا عبير موسي، التي ترشحت للرئاسة على برنامج معاد للإسلاميين. وتضم الجبهة أحزاباً مثل حزب النهضة الذي لعب دوراً في مرحلة ما بعد الثورة. وحقيقة التلاقي الأيديولوجي على معاداة سعيد تعطي صورة عن تلاشي الدعم له.
وعندما قام بانقلابه الشخصي عام 2021، لقي شعبية من التونسيين المحبطين، وأظهرت استطلاعات أجريت في حينه أن شعبيته وصلت إلى 80%، لكنها سرعان ما تراجعت، ويقول المسؤولون إن نسبة 30% شاركت في الاستفتاء على الدستور، مع أن كثيرين يرون أن النسبة مضخمة. وشعبيته في تلاشٍ مستمر، وقلة تأتي للمشاركة في التظاهرات المؤيدة له.
ولا توجد آمال بقدرة حكومة سعيد ونوابه “البصّيمة” على حل مشاكل البلاد الاقتصادية، ذلك أن الأعراض لا تزال كما هي: فتونس غير منتجة، ولديها قطاع عام متضخم، وفاتورة رواتبه هي الأعلى في العالم (18% من حجم الناتج المحلي العام)، وليس لدى الشركات المملوكة من الحكومة قدرة تنافسية. ولا يزال الجنوب والغرب فقيراً ومتخلفاً عن العاصمة تونس، نظراً للسياسات الاستثمارية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة التي أهملت المنطقتين. وإذا لم تتغير جذور الأزمة فإن الأعراض ستزيد سوءاً. فقد تقلص الاقتصاد بنسبة 9% في 2020، ولا يزال النمو كسولاً، وأدت زيادة أسعار المحروقات والمواد الغذائية إلى أزمة ميزان مدفوعات، حيث زادت أسعار السكر والزبدة وزيت الطبخ والمواد الأساسية الأخرى، في وقت ظلت فيه المواد المستوردة عالقة على الموانئ لعدم القدرة على تخليصها. وارتفع التضخم السنوي في تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 9.8%، وهي ديمقراطية في حالة صحية مزرية، عندما تعلن أن المشاركة في الانتخابات هي أقل من معدل التضخم. وما أنقذ سعيد حتى الآن هو اللامبالاة، فإن لم يستطع حشد مسيرات كبيرة، فكذا المعارضون له. فمعظم التونسيين يشعرون بالقرف من السياسة، وما يشغلهم هو تأمين لقمة العيش، وليس المشاركة في التظاهرات. إلا أن سعيد لا يمكنه التعويل على هدوء الجماهير وللأبد. وقد فعل سعيد كل ما بوسعه لكي يعيد البلاد إلى حكم الرجل الواحد، وعدم اهتمامه بالاقتصاد يعني أنه قد لا يكون ذلك الحاكم.