لم تغادر الإبتسامة عبد الناصر إلا عند إلقائه لخطابه الشهير- بعد هزيمة يونيو1967- معلنا تنحيه عن المسؤولية. وأفلت الإبتسامة مع أفول الحلم الكبير إلى أن رحل. لم نكن نعرف عبد الناصر إلا مبتسما، بل لم تغادره الإبتسامة والمغرب محتل من قبل الإستعمار، في صور نصفية بالإبيض والأسود، استنسخت منها الملايين وعلقت بالقلوب بعد أن أخفى الناس صوره، بطرق متعددة، تحسبا لكل مداهمة من قبل جنود الإحتلال. فامتلاك صورة عبدالناصر جريمة يعاقب عليه القانون. ابتسامة عبد النصر عريضة عرض أحلام الأمة. وهي بذلك تعكس حالة من الإطمئنان، من ناحية، والثقة في الذات، من ناحية أخرى. لم تكن ابتسامة بمقدار. لم تكن نصف ابتسامة. ولم تكن، أيضا، ابتسامة جانبية، بإحدى زاويتي الفم. كانت ابتسامة عريضة تعكس ما يجول في الداخل، داخل الذات. وبامتدادها العــــريض تنفــــرج الأسارير، وينبسط الوجه، وتشتعل العينان، وتتسع الجبهة، وينشرح المتلقي. لازمت الإبتسامة عبد الناصر ساعة الصفر لثورة 23 يوليو، وفي معركة القنال، وأثناء العدوان الثلاثي، وأثنــــاء محـــاولات الإغتيال، وخلال الإصلاح الزراعي، وأثناء حرب اليمن، وفي حرب الفلوجة بفلسطين المحتلة، وبسقف حانوت أبي المبرنز بالقيسارية العصرية بجانب صورة لفظ الجلالة التي انعكس عليها ضوء مصباح النيون الثلجي، وعبدالناصر لايكف عن الإبتسام، حرا أو قرا، ليلا أونهارا.. والإبتسامة لم تقتصر على الصورة النصفية الذائعة الصيت، بل لازمت الإبتسامة عبد الناصر، ووقوفا وجلوسا، سائرا أو متوقفا، لسبب أو لآخر، محاورا أو صامتا. والغريب أن الإبتسامة لا تتوقف عند الوجه الضاحك، بسمرته القمحية الجذلة بالشمس والهواء وحب الحياة، بل تنساب الإبتسامة عبر الجسد الفاره وهويتقدم بخطوات ثابتة نحو الأخر، ورجلا كان أو امرأة، شيخا، أو طفلا رضيعا، فلاحا أو عاملا.. بل قد تتقدمه الإبتسامة العريضة نحو الحجروالشجر والنهر والزرع.. تتقدمه نحو الأمل، نحو الحياة. ما ابتسم مبارك- طوال حكمه- إلا في لحظة (تبرئته) من دم شهداء الميدان! لم تكن ابتسامة، بل كانت تشفيا مشوبا بغير قليل من الإمتعاض، وغير قليل من الإنتفاخ. وزادتها نظارة (الرايبان) الشمسية السوداء غموضا وقسوة وهي تقرأ القسمات بحركات مدربة. والرائي يحس بأن هذه الحركة الممتعضة المنتفخة صادرة عن قناع استعمل في اللحظة المناسبة لوجه لا تتغير قسماته. انكشف الوجه وسقط القناع. وطوال ما يزيد على العقود الثلاثة، من حكمه،تأرجح الوجه بين الحدين السابقين:حد الإمتعاض وحد التشفي. وبالرغم من ا انتقاله إلى (شرم الشيخ) لممارسة الحكم، بواسطة الأنترنيت، فإن الوجه لم يعرف، يوما، الإبتسامة التي تعرفها كل الوجوه! في لقائه بوزرائه يظل ممطوط الشفتين بشبرين أو أكثر. وأثناء خطبه الرسمية (ذكرى الشرطة- احتفالات الجيش- التدشينات الرسمية..) لا تغادره عقدة الجبين. وأثناء مقابلته للمبعوثين الأجانب يختلف الأمر. فإذا كان المبعوث امرأة تنفرج الشفتان ويغور الخدان، إلى الحد الذي يبدو فيه صاحبه فاقدا لأسنانه، ويصبح أقرب إلى صورة المعلم كرشة، في (زقاق المدق)، وهو ينزع بنظراته الخبيرة، الملاءة السوداء عن جسد حميدة الفائرعند مرورها أمام عتبة المقهى. وإذا كان المبعوث رجلا، لاتتوقف الشفتان عن الإنكماش والإنبعاج، وكأن صاحبه يعاني من مغص يريد إخفاءه عن المتلقي بكل السبل! ولاشك أن هذه الصورة الملتبسة مرجعها ما عانه الوجه من شدّ ومسد ودلك وعجن ومعك، إلى أن أصبح مثل جلدة طبل، اقتربت من قناع المومياء، حينا، ومن بهلوان السيرك حينا آخر. والرائي إلى هذا القناع يستعصي عليه التمييز بين الضحك والبكاء، بيبن انفراج الشفتين، وخزر العينين، بين استطالة الأدنين، وصلابة الوجنتين.. اللهم.. لاشماتة. عبدالرحيم مؤذن